هناك تعبير واسع الاستخدام حالياً في مجال التطوير المعرفي هو "عنقود المعرفة Knowledge Cluster". والعنقود المألوف لدينا هو "عنقود العنب"، ونحن حينما نذهب لنشتريه نختار العنقود الغني بحبات العنب الناضجة والمُرتبطة بجذور العنقود مكونة شبكة طازجة نضرة من هذه الحبات. وبالطبع نبتعد عادة عن اختيار الحبات المُتناثرة لأنها قد لا تبدو نضرة وطازجة، ولا تُعطي ذات الشعور الذي يُعطيه منظر العنقود الذي يجمعها ويجعل منها مشهداً جميلاً جذاباً للناظرين. جرى طرح موضوع "عناقيد المعرفة" في مُؤتمر حول التعليم العالي حضرته في ماليزيا الشهر الماضي. وحبات العنب في عنقود المعرفة هي المُؤسسات المعرفية المُترابطة. ويتراوح تكوين عنقود المعرفة بين مُؤسسة معرفية مُستقلة تضع مشاريع أو برامج للتعاون تجمعها مع مُؤسسات معرفية أخرى لتحقيق أهداف يُحددها المشروع أو البرنامج من جهة؛ وبين مُؤسسات معرفية تضع خطة إستراتيجية مُشتركة للعمل معاً على دعم تكامل أعمالها، وتعزيز دورها المعرفي في المُجتمع والإسهام في تحقيق التنمية المُستدامة من جهة أخرى. وبين هاتين الجهتين تفصيلات أخرى لما يُمكن أن يُؤدي إلى تكوين "عنقود معرفة" معطاء. على أساس ما سبق، تستطيع المُؤسسات المعرفية بشتى أشكالها أن تكوّن عناقيد معرفة بدءاً بذاتها على مستواها الخاص من خلال برامج ومشروعات تطرحها وتعمل على تنفيذها. كما تستطيع أن توسع دائرتها الذاتية وتتفق مع مُؤسسات معرفية أخرى في توجهات مُشتركة تُفيدها جميعاً، ناهيك عن فائدتها العامة للمُجتمع أيضاً. بين العناقيد التي طرحها مُؤتمر ماليزيا تجربة لشركة "أيرباص Airbus" الأوروبية التي وضعت مشروعاً سنوياً مستمراً هو عبارة عن مُسابقة لطلاب الجامعات حول العالم من أصحاب المشروعات الأكاديمية المتميزة، خصوصاً في حقل الطيران، تجمعهم في عنقود يُقدمون أفكارهم من خلاله، ليس فقط للمُحكمين، ولكن من خلال معارض يحضرها كُل من يرغب في الاطلاع أيضاً. تتميز هذه المسابقة بجمع المتميزين من مُختلف جامعات العالم في إطار شراكة معرفية يستفيد منها الجميع، بما في ذلك الشركة صاحبة المشروع، وذلك بصرف النظر عن من يربح الجوائز الأولية، وبالطبع تكون فائدة الرابحين في المُسابقة أكبر مادياً ومعنوياً، وفي ذلك تحفيز على المنافسة المعرفية في حقول مقصودة على مستوى العالم. وبين التصورات التي قُدمت في المُؤتمر حول عناقيد المعرفة سواء من المحاضرين أو من محاوريهم خلال الجلسات، تلك العناقيد التي تجمع مُؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي ومُؤسسات توظيف المعرفة والاستفادة منها في الصناعة والزراعة والخدمات المُختلفة. وجرى الحديث عن مُختلف حدائق التقنية وحاضناتها والمدن المعرفية وما يرتبط بها. وإذا نقلنا المشهد في إطار عناقيد المعرفة إلى بلادنا وما تسعى إليه من مستقبل يستند في تطوره إلى المعرفة لتحقيق التنمية المُستدامة، فماذا نرى؟ نرى أن لدينا مُؤسسات صناعية وزراعية وخدمية مُتميزة تستطيع في إطارها الذاتي أن تُقدم مشاريع خاصة بها لتبني عناقيد معرفة تُحقق فوائد ذات أهداف مُحددة كما أوردنا سابقاً. ولدينا أيضاً مُدناً صناعية في مُختلف أنحاء المملكة، وكذلك جامعات ومُؤسسات للتعليم العالي موزعة على مُختلف أنحاء. ويحتاج الطرفان إلى عناقيد معرفة تجمعهما في تعاون استراتيجي في المناطق التي يتجاوران فيها. ولا شك أن ذلك يجعل من كُل منطقة، تجمع عدداً من المُؤسسات المعرفية المُتكاملة، واحة للإنتاج والعطاء والتنمية المنشودة. ولعلي أختم هذا الموضوع بدعوة المُؤسسات المعرفية إلى التكامل في إطار "عناقيد معرفية" تستجيب للمتغيرات وتُحقق آمال بناء البيئة المعرفية الملائمة لتوجهات التنمية. إنها دعوة إلى جامعاتنا ومُؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي لدينا، ودعوة إلى المُؤسسات الصناعية والزراعية والخدمية، ودعوة إلى كُل شخصية معرفية مُؤثرة، دعوة إلى بناء عناقيد معرفة فعّالة تُشبه عناقيد العنب الشهية والمُتجددة والنضرة، تُسهم في التنمية المُستدامة تستحقها بلادنا الغالية.