قبل عدة أيام كنت في حفل استقبال اقامه خريجو جامعة ولاية بنسلفينيا الأمريكية في مدينة الخبر بالتعاون مع شركة أرامكو السعودية وحضر اللقاء مدير الجامعة (جراهام سبانير) والقنصل الأمريكي في الظهران وعدد من مسؤولي وأساتذة جامعة بنسلفينيا وبعض الاساتذة السعوديين من جامعات المنطقة والخريجين الشباب والكهول. تحدث مدير الجامعة حول رؤيته التعليمية التي تركز على التعليم أكثر من البحث العلمي ليس لأن البحث غير مهم بل لأنه يرى أنه مهما حاول إثناء الاساتذة عن البحث العلمي فلن يستطيع لذلك فهو يحاول أن يشجعهم على التدريس وإعطاء الطلاب وقتا أكثر، كما أنه ابدى عدم اهتمام بتصنيف الجامعات وأكد أنه لم يحدث قط أن حصلت جامعة حكومية على مركز متقدم بين اعلى عشرين جامعة في الولاياتالمتحدة لأن معايير التصنيف غير متوازنة وغالبا ما تكون منحازة. ويبدو مدير الجامعة هنا بخفة ظله وتواضعه ومهاراته في الالعاب السحرية بسيطا وجزءا من الحضور لا مترفعا عنهم فقد قام ببعض الالعاب السحرية المثيرة التي جعلت الجميع ينسى أنه مدير جامعة من أكبر الجامعات الأمريكية تتكون من 24 مقرا جامعيا ويزيد طلابها على 95 الفا. تذكرت حفل استقبال اقامته احدى الجامعات السعودية قبل عدة سنوات وكان مدير الجامعة متلفعا بمشلحه ويجلس منفردا بينما ترك له الضيوف كرسيا عن اليمن وآخر عن الشمال وإذا ما أراد أحد التحدث معه اتى منفردا وهمس في أذنه، ولا ادري كيف يكون هذا حفل استقبال ومدير الجامعة لا يتحدث مع أحد ولا يلقي كلمة ترحيب ولا ولا ولا. مدير جامعة بنسلفينيا لم يتورع عن كشف المشاكل التي تعاني منها جامعته هذه الفترة التي تجتاح فيه الأزمة المالية العالم كله وقال انه هنا من أجل استقطاب الطلاب، لأن جامعته تعتمد في جزء من دخلها على رسوم الطلاب، فقد أثارني هذا القول لأنه ذكرني بقول كثير من الزملاء "نحن اساتذة جامعة لا نذهب لأحد وعلى الآخرين أن يأتوا إلينا" حتى عندما نكون بحاجة لهم ولمساعدتهم. الفرق هنا كبير، فهناك من يريد الحياة ويطلبها ويرى أن الجامعة مسؤولية كبيرة ويجب أن تخوض سباق الحياة على كافة الأصعدة، وهناك من يرى أنه مجرد موظف في الجامعة وسواء أصبحت هذه المؤسسة مهمة أو لا، فهذا أمر تقرره الحكومة. لا اريد أن أذكر القارئ بخسائر جامعة الملك عبدالعزيز جراء أمطار الثلاث ساعات فهذه الخسائر تبني جامعة جديدة، فطالما أن الدولة ستعوض هذه الخسائر وطالما أن الجامعة تستطيع تحميل الآخرين المسؤولية فلماذا تهتم ولماذا تأخذ حيطتها، لقد شاهدت صور الجامعة بعد المطر، فلم أصدق أن هذه الجامعة تحتوي على كليات متخصصة في الهندسة والعمارة وتصاميم بيئة والجيولوجيا والعلوم، أين كل هذه التخصصات أين الاساتذة العلماء. يؤكد مدير جامعة بنسلفينيا أن دعم الولاية لجامعته لا يتجاوز 8% فقط من ميزانية الجامعة، والباقي يجب عليه وعلى الاساتذة وعلى مراكز الجامعة وطلابها توفيره، بينما تنتظر جامعاتنا دعم الدولة الكامل ولا تهتم بما يمكن أن يحدث للجامعة. كارثة المليار والنصف في جامعة الملك عبدالعزيز ليست بسبب اهمال الامانة (فهذا عذر قديم الكل يعرفه) لكنه بكل تأكيد بسبب إهمال إدارة الجامعة التي يجب أن تأخذ الحيطة والحذر وأن تكون على قدر المسؤولية حتى لو أهمل الآخرون أداء واجباتهم. لا يعتقد القارئ العزيز أن بساطة مدير جامعة بنسلفينيا وتواضعه ناتجان عن كونه يتحدث في بلد غريب وبين ضيوف غرباء بل هذه ثقافة الجامعات الغربية بشكل عام، وأذكر هنا أن مدير جامعة نيوكاسل ونائبه كانا يشاركاننا منهج السنة الاولى في برنامج الدكتوراه وكان هذا البرنامج عبارة عن مجموعة مناهج كلها في طرق البحث لجميع التخصصات. لقد قدم لي نائب مدير الجامعة كوب قهوة في فترة الاستراحة ورأيت المدير يخاطب كل الطلاب ويشاركهم كل التفاصيل ويقدم لهم القهوة. لم تكن هناك حواجز، بينما لا يمكنني أن اتصور أن مدير احدى الجامعات السعودية أن يتنازل عن "برستيجه" ويختلط مع الطلاب بسلاسة ودون تصنع، لأنه يحدث أحيانا أن تصور وسائل الاعلام زيارات ومشاركات لمديري الجامعات لكنها غالبا متصنعة ولا تنبع من رؤية حقيقية وقناعة بجدوى هذا السلوك من قبل إدارة الجامعة. كسر الحواجز بين الادارة والاساتذة والطلاب يصب دائما في مصلحة الجامعة ويقوي الانتماء لها. في اعتقادي أن ما قام به الخريجون السعوديون في جامعة بنسلفينيا وتشكيلهم لرابطة للخريجين يلتقون فيها كل عام (وهذه عادة متبعة لدى كل الخريجين السعوديين من الجامعات الأمريكيةوالغربية) يعبر عن ولاء وحب لهذه الجامعة، بينما لا توجد روابط خريجين في الجامعات السعودية، حتى أننا عندما حاولنا في كلية العمارة والتخطيط في جامعة الملك فيصل عمل حفل لخريجين الكلية، وكان ذلك قبل عدة أشهر، واجهتنا صعوبات عدة في جمع بيانات الخرجين، وأنا أتحدث هنا عن كلية وليست جامعة، والحقيقة أننا أقمنا الحفل وكان رائعا، الأمر الذي يؤكد أننا بحاجة إلى تبني ثقافة جديدة تعتمد على الروابط بين الجامعة والمجتمع وكسر الحواجز البيروقراطية والشكلية التي تحيط بها إدارات الجامعات نفسها لأنها حواجز تعزلها عن المحيط ولا تصب أبدا في مصلحة الجامعة. في اعتقادي أن مهمة ادارة الجامعة تتجاوز المكاتب وتنطلق إلى المجتمع، يجب أن يكون هناك وضوح كامل لهذا الدور مبني على رؤية مستقبلية واضحة، كما أن دخل الجامعة يجب أن يكون متعدد المصادر، فإلى متى تعتمد الجامعات بشكل كامل على ميزانية الدولة، ولماذا لا يكون هناك مصادر دخل أخرى يمكن للجامعة أن تعتمد عليها لتنمية أنشطتها البحثية والاجتماعية والابداعية. تحتاج الجامعات السعودية من وجهة نظري إلى انفتاح أشمل على القطاع الخاص وهذا لن يحدث ابدا في ظل هذه البيروقراطية التي تعزز من دور "المدير" وتعطيه صلاحية مطلقة في إدارة الجامعة لأن "الصلاحية المطلقة مفسدة مطلقة"، فلا غرو إذن أن يبقى الحال على ما هو عليه وأن تجتاح جامعاتنا الكوارث وببساطة طالما أن لا صوت يعلو فوق صوت المدير.