أحدثكم عن بعض أيام الصحافة ، و( ما دحس منها وما غبر) ، وبقي في الذاكرة ولم يندثر .! مواقف يطيش لغرابتها وطرافتها عقل الحليم .. و(يرفس) من كثرة الضحك عليها الوقور الحشيم .! فلقد جرى في بلاط سيدتي ، صاحبة الجلالة الصحفية ، ما قد يجري بين زملاء الوظائف الإدارية ، والأندية الرياضية ، أو حتى الطلبة (المشاغبين) ، الذين تمرسوا من نعومة أظفارهم على القفز ( بلا مظلة ) من أسوار المدارس الابتدائية ، هربا من ( الحصص الإضافية ) .. لينخرطوا في جولات من المصارعة الحرّة ، (والمطارحة المرّة) ، التي تنتهي في العادة ب (تثبيت الكتفين) .. أو (مقص الجسد) .. أو (القبضة المخلبية) .. أو حركة وضع الساقين على شكل الرقم 4 ، المفضية إلى الاستسلام .! ولقد أغرى بعض المحررين في تلك الأيام احتساب ( المكافأة ) على الأخبار بنظام (القطعة ) ، فعمدوا إلى تأليفها .! دبّ الحماس (طبعا) .. واشتعلت روح المنافسة .. فتفتقت قرائح البعض ، فأضافوا إلى موهبة (التأليف) نبوغا في (التلحين والتوزيع) .!! أقصد بالتلحين هنا ( تبهير ) الخبر و( تحميره وتقميره ) .. وأما ( التوزيع ) فيتم عبر نشر الأخبار( خلسة ) في أكثر من صحيفة للمحرر الواحد ، بأسماء (حركية ) .. و (نكهات اصطناعية) ، تغيّر طعم الخبر ورائحته ، وتبعده عن حاسة شم سعادة رئيس التحرير .! ( ما ينْلاموا يا صاحبي ) .! كانت مكافآتهم على ( الأخبار الصغيرة ) بين عشرين وثلاثين ريالا .. أما إذا دعّموا الخبر ب (فيتامينات) ، تزيده بسطة في الطول والعرض ، فإنه حينئذ يقفز إلى حاجز ( الخمسين ريالا ) ، مما يجعل صاحبه محط أنظار الزملاء ، وحسد السيّد ( أمين الصندوق ) .! كانت سحناتنا ولا أقول سحناتهم فأنا منهم مغبّرة معفّرة ، من ( رمل الطريق ) ، الذي لا علاقة له ب ( الحور العتيق ) .! طول النهار ( دوّارين في الشوارع .. دوّارين في الحارات ) .. نقفز من ( باص إلى باص ) ، كأننا أبطال فيلم ( نحنا بتوع الأوتوبيس ) .! في رحلة بحث عن خبر جديد .. وأحيانا ( ما به جديد ) ، فنبتلع ريقنا بعد أن نصبح نحن والخبر ( عشاق ليلة اتفارقوا وصاروا بعيد ) .! هاهو الوجدان ينعطف بنا إلى سرادق الرومانسيّات .. نحن يا صاحبي مهما تهبهبنا وانشوينا .. وانشلنا وانحطينا ،لا نصبر عن (البوح) بالتصريح الاختياري أو التلميح الاضطراري ، حتى لو مات الزمّار .! إيش نسوي ياصاحبي ؟! ( إللي فينا ما يخلّينا ) .! قالت فيروز : " سنرجع يوما إلى حيّنا ، ونغرق في دافئات المنى .. سنرجع مهما يمرّ الزماااان ، وتنأى المسافات ما بيننا " .! ها نحن نرجع إلى سيدتي صاحبة الجلالة .. إذ إننا لا نفقه في التجارة .. ولا في الحدادة والنجارة .. حتى زملاء المهنة اللي أكرمهم الله وطلعوا منها ب (قرشين) ، وأرادوا أن يجربوا حظهم في ( شغلة ما يعرفوا لها ) ، تاهت بهم الطريق ، وألقت بهم الريح في مكان سحيق .! أما بعض الكتاب ، الذين أدركتهم حرفة الأدب ، فقد كان حالهم كحالنا .. كنا نمر بالواحد منهم وهو يمشي على الطريق فيغبطنا حتى على ( البسكليتة ) ، لأن مركزه الأدبي ما كان يسمح له إلا أن ( يدقها كعّابي ) .. أما نحن فلم نبلغ ولله الحمد تلك الشهرة ، فانتفعنا بالمثل القائل : ( الركوب على الخنفس ولا المشي على الديباج ) .! قلت لكم كنا ( محررين ) .. ننطنط في الشوارع كما ( عفريت العلبة ) .. أما هم فكتّاب مثل ( لوحات النيون ) .. وكنا حروفا ( صغيرة ) لا يضيق بها صدر اللوحة ( الكبيرة ) .! كنا نحن الصغار نعرف كبار الكتّاب حق المعرفة ، وإذا صادف وأن نسي أحدنا أحدهم فإنهم يسارعون إلى تذكيره وتوبيخه ، كما حدث لأحد كبار الكتّاب مع أحد زملائنا من صغار المحررين وكان هذا الأخير يسوق ( تاكسي ) ليجبر ما انكسر من ظروف عمله في صاحبة الجلالة .! ركب الكاتب الكبير والشاعر الشهير مع زميلنا سوّاق التاكسي ، وحينما استشعر الراحة رقّت مشاعره ، وتفجّرت قرائحه .. فصلته هينمات الوجدان عن الزمان والمكان ، فتدفق الشعر كما ( سيل الربوع) الذي أغرق كل شيء ولم يقف في وجهه شيء .! توقّفت السيارة فخسئ شيطان شعره .. فتح الأستاذ الباب فذكّره زميلنا ب (الحساب) .. فقال له الأستاذ موبخا : ( أنا الشاعر فلان .. إنت ما تقرا جرايد يا ولدي ) ؟! من يومها طبعا ماعاد زميلنا يوقف (التاكسي) للكتّاب ولا للشعراء .! *** ناس بتكتب شعْر .. وناس بتكتب نثر .. وناس ( بتفضْفضْ ) في سطر وتترك سطر .! وناس همّها تقرا اللي ( مابين السطور ) مكتوب من أول السطر أو من آخره بالمقلوب .. على شان تلومك على نقطة في ميّة سطر .! *** ** لأن ( البوح ) ليس بضاعة ، فلن تكون له (مدة صلاحية ) .! ذهب (نزار) وبقيت الكلمات .. القواميس .. والمكاتيب .. والروايات .! لعله أراد أن يبتكر لغة جديدة ، لكنه رحل قبل أن يفعل .. و(برضه) ترك لها الكلمات ، لأنها الأجمل : لأن كلام القواميس مات .. لأن كلام المكاتيب مات ..لأن كلام الروايات مات ..أريد اكتشاف طريقة عشقٍ ، أحبك فيها بلا كلمات .!