انثالت ذاكرة الكاتب والصحفي المعتق الأستاذ يحيى باجنيد وهو يقدم شريط ذكرياته مع محبوبته صاحبة الجلالة (الصحافة) كما يحلو له أن يسميها، وذلك بقاعة تجديد الثقافة وبحضور جمهرة من الكتّاب والصحفيين والمثقفين. المحاضرة التي شهدت تدشين الباجنيد لكتابه الجديد (البازان وسيل البغدادية) قدم لها المستشار الشيخ أحمد باديب الذي تطرق في حديثه إلى صداقة وجيرته للأستاذ يحيى باجنيد في حارة الشام ثم انتقال الأسرتين إلى حي البغدادية وعرج باديب إلى أن الكاتب يحيى باجنيد من أمهر من يكتب عن وجداننا بطريقته الساخرة ولغته المستوحاة من المفردة الشعبية، كما تطرق المستشار باديب إلى وصف الحياة الشعبية في تلك الأحياء الجدوية قبل (55) عاماً وتحمله من صدق وبساطة وتوادد بينم الناس. ثم تحدث الأستاذ يحيى باجنيد عن تجربته التي عايشها من الألف إلى الياء مروراً بكل أحرف الهجاء واصفاً إياها انها مهنة وقدر ومصير، إنني أحدثكم عن معشوقتي العذبة المعذبة وعن السحر والصبر والوصال والهجر والسهر مع المطبوعة حتى الفجر. إنها مهنة المتاعب والرغائب والمطالب، لقد كانت أيامها مثل بقية الوظائف وقد يجري فيها بين زملاء المهنة مثل ما يحدث بين زملاء الوظائف الإدارية والأندية الرياضية أو حتى الطلبة المشاغبين. ويمضي باجنيد سارداً أيامه الصحفية فيقول: لقد أغرى بعض المحررين في تلك الأيام احتساب المكافأة على الأخبار بنظام القطعة فعمدوا إلى تأليفها فدب الحماس واشتعلت روح المنافسة فتفتقت قرائح البعض، فأضافوا إلى موهبة التأليف نبوغاً في التلحين والتوزيع وما أقصده هنا (تبهير) الخبر وتوزيعه خلسة في أكثر من صحيفة بأسماء حركية تبعده عن حاسة شم سعادة رئيس التحرير. لقد كانت المكافأة على الأخبار في تلك الحقبة تتراوح من عشرين إلى ثلاثين ريالاً وفي حالة تدعيم الخبر بتطويله فإن المكافأة قد تقفز إلى خمسين ريالاً مما يجعل صاحبه محط أنظار الزملاء وحسد السيد أمين الصندوق. كنا طوال النهار ننتقل من شارع إلى شارع ونقفز من باص إلى باص في البحث عن خبر جديد ثم عرج الباجنيد عن بعض الكتّاب الذين أدركتهم حرفة الأدب فقد كان حالهم كحالنا، كنا نمر بالواحد منهم وهو يمشي على الطريق فيغبطنا حتى على الدراجة التي تنقلنا من مكان لآخر، ولأن مركزه الأدبي ما كان يسمح له إلا أن يقصعه راجلاً دون أي وسيلة مواصلات. كنا نحن الصغار نعرف كبار الكتّاب حق المعرفة وإذا صادف ونسي أحدنا أحدهم فإنهم يسارعون إلى تذكيره وتوبيخه. وعن قرائه يضيف الباجنيد: إني لأجد في بوح قرائي نبضاً استشعر معه قيمة وأهمية من نكتب لهم، لقد مضى وانقضى ذلك الزمن الذي يمارس فيه الكاتب استاذيته على الناس، بعد أن ظن في لحظة زهو إنه ابن جلا وطلاع الثنايا بعمامة وبلا عمامة فما أكثر ما يخيب ظننا نحن الكتّاب حينما يدرك الواحد منا أن في الناس من هو أفقه منه بفنه، فلم يعد الكاتب معلماً ولا صاحب معلومة لأن العلم اليوم يملأ ما بين الأرض والسماء يحصل عليه من يشاء بضغطة زر. وعن أهمية السفر للكاتب قال الباجنيد: أنا أسافر وأنا اكتب إذاً أنا أعيش كيف يمكن أن تكون هذه المعادلة صحيحة وأصيلة وليست مستنسخة إن السفر ولادة كما الكتابة والأفكار، واعتزال الكتابة والسفر كاعتزال اللعب مع الفارق لأن الكاتب لا يحتاج إلى حفل ولا مشاركة أندية عربية أو عالمية، وسيظل الكتبة يحسدون اللاعبين إلى أن تتوازن القوى بين الكاتب واللاعب. إنني أقول لهذا الطفل الذي في داخلي: من أنت يا حضرة الكاتب الذي يريد أن يقال له دوماً أحسنت لا فض فوك، أو سلمت يداك. فأقول له اعقل يا صاحبي فأنت (بياع كلام) قمت أو قعدت والقارئ زبون والزبون دائماً على حق، قلها لنفسك قبل أن يقال لك (ورينا عرض اكتافك)، إن الكتابة اليومية بالنسبة لي هي رئة ثالثة اتنفس منها شهيقاً وزفيراً وتحليقاً وتغريداً وصفيراً، ورغم أني لاعب محترف لم أوقع مع رئيس تحريرها الصديق الأستاذ تركي السديري عقداً احترافياً، كما يفعل اللاعب الدولي ولكن قلنا: (الميدان يا حميدان)، لقد منحتني هذه الصحيفة قراء يمتازون بالتنوع كما مذاق الفواكه فيهم الحكيم وفيهم الظريف الخفيف وفيهم العاطفي الرقيق وفيهم المشاكس صاحب المزاج وهم جميعاً خلطة سرية لن أفرط فيها ما بقي من العمر. لقد تبادلت مع قرائي (تمريرات) طويلة وعرضية تعرفت من خلالها على مهاراتهم الفائقة في التصويب والاختراق من العمق الهجوم عن طريق الأجنحة والدفاع المتقدم عن طريق المحاور. ويختتم الكاتب يحيى باجنيد ذكرياته عن المفردات التي يعشقها بقوله: تعجبني الكلمة المنحوتة اتأملها كما يتأمل السائح منحوتات مايكل انجلو وموناليزا دافنشي وسيمفونيات بيتهوفن. إن الكلمة المجنحة ليست حكراً على الحكماء والفلاسفة والشعراء فكثيراً ما أتت على لسان إنسان بسيط قد لا يعرف الألف من الياء، فمن قال إن حروف الهجاء هي وحدها لغة التخاطب؟ إن طعم ما في الحياة أن تتذوق لغة الآخرين! بعضكم يذكر رواية (ثرثرة فوق النيل) صحيح أن نجيب محفوظ كان روائياً كبيراً لكن الفنان عماد حمدي كان في هذا الفيلم أكبر ولم يكن نجيب على كبر قامته يتدخل في العمل بعد الكتابة، بل يترك الآخرين يضيفون إلى ابداعاتهم من المخرج إلى الممثل إلى آخر كومبارس، بل كان يقول: أنا كاتب وبس، ولم يقل مثل بعض الناس: (يا أرض انهدي ما عليك قدي!). هذا وبعد أن سرد الكاتب الصحفي الأستاذ يحيى باجنيد تجربته مع صاحبة الجلالة تداخل معه كثير من الحضور حول عمله مع رئيس تحرير البلاد في تلك الفترة الأستاذ عبدالمجيد شبكشي وزملاء المهنة منهم الأساتذة عبدالله الجفري وعلوي الصافي وحسن الظاهري ومحمد صادق دياب وعلي العمير، كما تحدث عن الأمل في حياته وتجربته مع دراسة الفن التشكيلي في ايطاليا وتشجيع الأستاذ محمد حسن عواد عندما بدأ يكتب المسرحية.