لأسباب ذات صلة بالعلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة لم تعمّر (الرابطة الأدبية) في الكويت طويلاً، فبعد عام واحد من الإعلان عن تأسيسها في مايو 1958م، حُلَّت مع غيرها من الجمعيات والنوادي، كما يروي خليفة الوقيان جانباً من المراودات الثقافية الحقوقية في كتابه (الثقافة في الكويت – بواكير واتجاهات). وذلك إثر الخلاف الذي حدث بين الحكومة وممثلي الجماعات والنوادي التي اشتركت في الاحتفال بذكرى الوحدة بين مصر وسوريا. لكن ذلك الحظر لم يمنع الذين نذروا أنفسهم لفكرة الرابطة من معاودة الكرّة، والإصرار على توطين مفاعيل الخطاب القومي تحديداً، حيث تم التأكيد عليه مرة أخرى في قانون (رابطة الأدباء والكتّاب) التي تأسست بعد الاستقلال في العام 1964م كأول تجمّعٍ ثقافي خليجي له طابع التنظيم، إذ لم تكن الثقافة حينها إلا ترجمة لمعنى الوعي بالحرية والتعبير عن حراك وحيوية القوى الاجتماعية بمعناها الأيدلوجي، وليس مجرد منتجات أدبية. وقد بدا ذلك التجابه آنذاك كأحد الشروط الضرورية لإنتاج المثقف، أي تعزيز مقومات الخطاب الثقافي بهواجس التحرّر حتى صارت كل تلك المتوالية من التحديات الحقوقية جزءاً من التاريخ الاجتماعي، وليست مجرد تطلّعات حالمة لشريحة من المتنورين المعزولين، أو هذا ما يموضعّه باقر سلمان النجّار ضمن سياق متشعب ثقافياً وحقوقياً سماه (الديمقراطية العصِيَّة في الخليج) حيث يعود تاريخ التنظيمات الثقافية في الخليج إلى الثلاثينيات من القرن الماضي من خلال التجمّعات الأدبية وحتى الرياضية، لكنها لم تتخذ معناها وشكلها التنظيمي وفق الهياكل المعترف بها كإتحادات للكتّاب إلا منتصف الستينيات عندما تم إنشاء (رابطة الأدباء والكتّاب) في الكويت، فيما حملت نهاية العقد ذاته (1969) بشائر الإعلان عن تكوين (أسرة الأدباء والكتّاب في البحرين) ليستمر الوضع الثقافي الخليجي في حالة فراغ تنظيمي حتى مطلع الثمانينيات (1982) حيث تم تشكيل (إتحاد كتّاب وأدباء الإمارات). وبعد مثابرة مضنية وطويلة تم إشهار (الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء) أواخر العام (2006) وفي نهاية العام (2008) تم الإعلان عن إنشاء (الجمعية القطرية للأدباء والكتّاب) فيما لم يبد المثقفون في السعودية أي حركة جديّة بهذا الإتجاه، بانتظار ما تجود به المؤسسة. هكذا انتزع المثقفون في الخليج بعض حقوقهم في إنشاء المنظمات الأدبية (جمعية، أسرة، إتحاد، رابطة) بموازاة (مؤسسة) تجاوز حضورها مفهوم الجهاز، الذي يقف على قمة الثقافة الرسمية، بتعبير ابراهيم غلوم، في تفكيكه للعلاقة بين (الثقافة وإنتاج الديمقراطية) إلى مهمة امتلاك كافة الصلاحيات ومنح الهامشي منها للمؤسسات الثقافية الأهلية (في حدود لا تخترق محاذير السياسة والأمن والدين) بحيث ذابت الفوارق بين الثقافة الرسمية وما يقابلها من الثقافة الشعبية أو الجماهيرية، لدرجة أن التنظيمات الثقافية الأهلية صارت تمارس الرقابة الذاتية بشكل مبالغ فيه، يخل بالعلاقة بين المثقف والسلطة، حيث لم تُمنح الثقة الكاملة لتلك التجمّعات في إنتاج الخطاب الثقافي، أو حتى ابتناء شراكة ثقافية حقيقية مع المؤسسة، الأمر الذي أفقدها سمة الاستقلالية والمغايرة. ويبدو أن المؤسسة قد استطاعت إقناع فصيل من المثقفين بعدم وجود صلة أو ضرورة للربط بين الثقافة والديمقراطية، بمواصلة إنكار ذلك التلازم البنيوي فيما بين المفهومين أو الممارستين، وهو ما يعني بشكل تلقائي، ومن منظور المؤسسة وبعض المثقفين المتحمسين لبرنامجها، عدم وجود حاجة لمفاعلة الخبرة الثقافية مع الممارسة أو التجربة الديمقراطية، مع الإبقاء على ممانعة صورية رخوة، أدت في نهاية المطاف إلى تحبيط الكثير من المثقفين وتيئيسهم، بعد موجات التجفيف المبرمج لمنابع الديمقراطية، بل تفتيش الضمائر التي واصلت الهجس بها كجوهر للحالة الثقافية، الأمر الذي أدى إلى فصل الحركة الثقافية عن معينها الاجتماعي، وتبديد جهود ونبرات الأصوات الواعية بالحرية والمنادية بها، تحت وقع وسطوة الخطاب الإعلامي وفائض المنتجات الثقافية الاستهلاكية الملتبسة بالثقافي. وبموجب ذلك الانفراد القصدي من جانب المؤسسة بالشأن الثقافي، لم يعد المثقف يمثل أي قيمة يُعتد بها، ولا يُنظر إليه من الوجهة الاجتماعية كأداة لتقويم مسالك المؤسسة، أو التصادم معها، بقدر ما يمثل الإبن الشرعي والوفي للمؤسسة في أقصى تجلياتها السلطوية، رغم إنتماء أغلب المثقفين لمؤسسات ومنظمات أهلية تزعم الاستقلالية، وتتنطحّ على الدوام بقدرتها على إنتاج خطاب مغاير، فيما تتلقى الدعم المادي والإمداد المعنوي باستمرار من المؤسسة، وعليه صارت أغلب رموز الثقافة التي تزعم الاستقلالية تصافح الرسمي براحتها اليمنى، فيما تلوّح بقبضتها اليسرى في المدار الجماهيري، بل تتماهى مع اشتغالات المثقف الديني، حتى باتت تشكل عبئاً مادياً وأخلاقياً على المؤسسة، بالنظر إلى تحوّل منظوماتها هي الأخرى إلى هياكل فارغة عاجزة عن إنتاج الثقافة والمثقفين، بعد أن تم تجريدها من السلطة الأخلاقية والأدبية، مثلها مثل توأمها المؤسساتي. ولأن المؤسسة كمنظومة علوية إملائية لا تقبل التشارك، ولا تهب ثقتها للمثقف مهما أعلن من ولاء واستعداد لتنفيذ برامجها، بالغت في ابتكار وتنشيط مضخاتها، من خلال مؤسسات رديفة تحمل السمة الاحترافية في الأداء الثقافي والإعلامي، بل امتلكت من الخطط والبرامج ما يكفي لاجتذاب المثقفين وإقناعهم بجدوى الفعل الثقافي الذي يترجم القرار السياسي الرسمي، وبمعزل عن الهاجس الديمقراطي، حيث ظهر (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت) إلى جانب (مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربي في قطر) بالإضافة إلى السلسلة المترامية من الأندية الأدبية، وجمعيات الثقافة والفنون، في السعودية، التي تفوق من حيث ميزانيتها المالية المرصودة كل مراودات المثقفين الذين شهدوا بأم أعينهم الثقافة وهي تندحر كرأسمال مضيّع، على إيقاع تهاوى أحلام الطبقة الوسطى، والتباس الثقافي بالاستهلاكي والإعلامي والوجاهي. ومن يتأمل ما آل إليه حال أسرة الأدباء في البحرين – مثلاً - ويقارن واقعها كمثقفين وإنتاج فلن يجد اليوم ما أرادت أن تتحمّل تمثيله، حسب شعارها ونظامها الداخلي، من فكرٍ إنساني تقدمي، خصوصاً بعد امتثالها لميثاق العمل الوطني سنة 2001م. ولن يتلمّس بالتأكيد في حراك رابطة الأدباء في الكويت أصلانية منزعها لتمثيل الفكر القومي إبان سطوته الأيدلوجية، خصوصاً بعد نكبة الغزو من الجار الذي خدع الكويتيين بشعار قومية المعركة، بالنظر إلى أن المثقف الخليجي لا يمتلك – برأي ابراهيم غلوم - رداً واضحاً على الحدث الثقافي المحلي والعالمي، حيث يتبدى عجزه عند اختبار خطابه في سياق الكوارث والتحولات. كما بدى ذلك فاضحاَ ومربكاً للكثير من المثقفين المتنطحين بالمبادئ والمواقف والأيدلوجيا أثناء الحرب الهبائية بين العراق وإيران، وبعد الغزو الغاد للكويت، وإبان الاعتداء الصهيوني في تموز، والعدوان البربري على غزة، حيث تفشت بين المثقفين متوالية من الصّور الصادمة تمثلت في النعرات الطائفية والمذهبية والشوفينية، بعد ارتداد أغلبهم إلى حضانة المؤسسة، مع الحفاظ على وقارهم المعرفي، وفائض من العقلانية الباردة في مقاربة تلك الأحداث، كما يُلاحظ في نبرة الإنهزامية المغلّفة بخطاب استعراضي يقوم على التبرير والتضليل، أو كما يرصده ابراهيم غلوم في حالة الولع الشديد لاستخدام وترديد مصطلح العولمة، حتى عند الساسة وكبار موظفي الدولة، فيما يخلّف حملّة الشهادات وراءهم (تجارب المعارضة في الماضي القريب) ويتم تلبيس (الخطاب الثقافي للمؤسسة الرسمية بلاغة تنظيرية متضخمة أحياناً بالدعاوى واجتراح التجارب النظرية، وبصورة كشفت عن عجز بالغ في مواجهة المشاكل والأزمات). هنا يكمن ما يمكن تسميته بالمعتلف الابستمولوجي الذي خرج منه، حسب تحليل غلوم (مثقف ذي تكوين ديني أصولي ولكنه يتعاطى الخطاب الحداثي فيلهج بمصطلحات نظرية من قبيل الألسنية والبنيوية والتفكيكية ويُقبل على شروح ونُقول مجتزأة من هذه النظريات) كما تتوّضح معالم الانتقال البائس من الحلم الأيدلوجي إلى العلف الابستمولوجي في المختبر الثقافي في السعودية تحديداً، الذي يتأمله باقر النجّار بشيء من الحفر العمودي في ظاهرة الابستمولوجيا الفائضة، وكأنه يمارس شيئاً من التعميق لحفريات غلوم، فالمنظمات الأدبية في الكويت والبحرين برأيه (تحمل في خطابها الأدبي وفي خطاب بعض أعضائها بعض المضامين السياسية، أو أن بعضاً منها يحتل بالفعل موقعاً في الحركة السياسية المحلية). أما المنظمات أو الأندية الأدبية في السعودية فيلاحظ أنها (تحولت إلى صالونات أدبية صرفة وذلك نتيجة للأوضاع السياسية العامة الخاصة بالمجتمع السعودي كالهيمنة الكبيرة للتيارات الفكرية السلفية أو أنها تمثل في أحسن أحوالها بعض الاتجاهات الأدبية النقدية، كأن تمثل الاتجاهات أو المدرسة النقدية الحداثية في الأدب كالبنيوية أو التفكيكية أو غيرهما مقابل الاتجاهات الأدبية العربية التقليدية الأكثر تمثيلاً وحضوراً في الحركة الأدبية السعودية والتي قد تريح متبنيها من غضب السلطة أو لعنة المؤسسة الدينية السلفية).