بشارع ضيق تراصت البيوت بسور طويل من الطوب والأسمنت والأصباغ تخترقها عدة أبواب باب لأبي محمد وباب لأبي خالد وباب لأبي عبد الله وباب لأم الأيتام .بيوت باردة لا يصدر عنها سوى الإضاءة والأجساد التي تستقل السيارات ذهابا وإيابا ..ليلاً أو نهاراً. اعتاد أن يذهب للمسجد كل فرض لآداء الصلاة مشياً على الأقدام من بيته للمسجد المتربع بآخر الشارع .. يمر بتلك البيوت الخاوية و قلة من أبوابها تنفرج لأقدام مهرولة للصلاة ولضيق الوقت لم تسنح له الفرصة للتعارف بأصحاب الحي القدماء فمنذ فترة قصيرة حط رحاله ولم توجه له دعوة أو ترحيب .. سواه هو لم يكن أحد يرحب بقدومه ..أو يقف منتظراً على عتبة الدار لأخذ الحلوى كل غروب شمس من يده مقدما له وسام الترحيب بابتسامة تمزق محياه وتسكب بين طياته الفرح والعطر .. لم يكن يتحدث بغير هز رأسه وتحريك شعيراته الناعمة حول عينيه العسلية وتحريك شفتيه بكلمة: شكراً عمي يذكر الله الذي منحه صورة بهية تسر الناظرين ثم يواصل السير للصلاة.. حول المسجد يطرح السلام وبالكاد يجد من يرده عليه الكل في عجالة من أمره فالدنيا لدى البالغين زحمة إلى ما قبيل الرحيل عنها .. بينما الصغير يوزع سلة عطاياه بثمن ضئيل لا تتعدى بضع ريالات .. ابتسامات ومرح وشقاوة ووهج يعانق عنان السماء لا ينطفئ سوى بحلول ساعة النوم وللطفولة جمالها ورونقها وبراءتها .. سعد كثيرا ذات يوم لأن زميله بالعمل لبى دعوته بتناول الغداء معه وبعد قسط من الراحة أمسك بيده للمسجد يتسامران ويتضاحكان بالطريق .. وعند العتبة المعتادة توقفت خطواته أمام الصغير وهو يضحك مادا كفه الصغيرة :عمي الحلوى بتلقائية دس يده بجيبه ليجلب له الحلوى ففاجأه هذه المرة بطبع قبلة على خده ..بمشاعر الأبوة ابتسم وهو يدس الحلوى بكفه وقبل خده الآخر مضى وصاحبه يقف متسمرا .. صاح به :مشينا تحرك بسرعة الإمام أقام الصلاة أطلقها تنهيدة بدهشة : من هالولد المزيون ..من يقال لهم ..؟؟ تركه يهلوس بامتداح ملامحه (عينه واسعة شعره ناعم بشرته صافية جميل جميل الطفل )..وبالأخير ضحك على جملته : وشلون خواته أجل ..مادام هو بهالزين .. باليوم التالي ..مر بالشارع لم ير الصغير .. وباليوم الذي بعده زاد به القلق :ترى أين ذهب ؟؟رحلوا أم سافروا ..ماذا ؟؟ باليوم الثالث امتلأ الشارع بالسيارات والمارة نساء ورجال يتدفقون على باب المنزل أفواجاً أفواجاً... لم يجد من يسأله فاسترق السمع لحديث اثنين يتحادثان بشجون : رحمه الله وشفى والدته من الصدمة .. رد الآخر : الغريب ماكان فيه إلا العافية ارتفعت الحرارة فجأة هبوط بالقلب وتوفى عسى الله يشفع به .. صرخ متألما مصدوماً : المزيون مات ..انهار كل كيان بداخله ..ذو البسمة الساحرة البريئة رحل ..بلا عودة ..الموت حق.. وقفة : عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( استعيذوا بالله من العين . فإن العين حق )) ويقول تعالى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما