لاقى تبني «الرسالة» لاجتهاد الشيخ عبدالله المنيع حول خصوصية المسجد النبوي، من حيث اعتبار أن «المقصود بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كل ما كان داخل حدود المدينةالمنورة ما بين لابتيها شرقًا وغربًا، وما بين عير وثور شمالًا وجنوبًا»، تجاوبًا كبيرًا من جانب العلماء الذين اقتصرت ردودهم في الحلقة السابقة من متابعة الموضوع، على التأييد والمعارضة والتمهل لما بعد إمعان النظر والدراسة، أما ردودهم في هذه الحلقة فتناولت نقاش الاستدلالات التي استند إليها الشيخ في بلورة اجتهاده، وأظهروا تضعضع مدلول بعضها في تعزيز الرأي الذي ذهب إليه الشيخ ابن منيع، فإلى ردود هذه الحلقة: لا أعرف أحدًا من السابقين قال إن فضل الصلاة يعم جميع حرم المدينة جمهور أهل العلم يذهب إلى أن الصلاة مضاعفة في كل المسجد بما فيه من التوسعات مسألة المضاعفة في كلّ حرم مكة مسألة خلافية بينما لا نجد هذا الخلاف في حرم المدينة ---- الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد، فقد قرأت ما طرحته «الرسالة» عطفا على ما سطره شيخنا الجليل عبدالله المنيع -حفظه الله- حول مضاعفة الصلاة لعامة حرم المدينة دون تخصيص ذلك بمسجده صلى الله عليه وسلم، وكان من تواضع الشيخ كما هو المعهود عنه أن ذكر أن ذلك محلّ اجتهاد منه، طالبا في الوقت نفسه التعليق على ما أورده إن كان ثمت من يخالفه في ذلك، والهدف بيان ما ورد في المسألة، وإثراؤها من الجانب العلمي، فأقول: أولا: لا أذكر ولا أعرف من قال من السابقين بأن فضل الصلاة يعم جميع حرم المدينة، وليت الشيخ أسعفنا بذكر من قال بهذا القول من السابقين من عهد السلف أو من قرب منهم في الزمان. ثانيا: الذي أعرفه أن الخلاف كان محصورًا في نقطة واحدة وهي: هل الزيادات والتوسعات في البناء تأخذ حكم الأصل الذي كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ولذا تردد بعض الصحابة لما زاد عمر في قبلية المسجد في الصلاة في تلك الزيادة حتى هدوا إلى الصواب فيها، وأن الزيادة تأخذ حكم المزيد. وأصل المسألة: قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا...) فالخلاف وقع في اسم الإشارة هل يشمل الزيادات التي زادها الخلفاء أم لا ؟ ولم يتطرقوا من قريب أو بعيد لبقيّة مساجد المدينة، التي دلت نصوص كثيرة على مغايرتها لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام). رواه مسلم، رقم (1394) قال النووي رحمه الله: واعلم أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده فينبغي أن يحرص على ذلك ويتفطن لما ذكرته وقد نبهت على هذا في كتاب المناسك. والله أعلم. شرح النووي لمسلم، ج9 / 166. وانظر كتاب المناسك، ص / 165. وهذا الرأي هو الذي ذكره النووي في المجموع خلافًا لما قيل بأنه رجع عن هذا القول في المجموع، ذكر ذلك الشيخ الفقيه الفاضل عطية محمد سالم في تكملة أضواء البيان، ج8 / 564، وقد يقول قائل: لعل النووي ذكره في موطن آخر في المجموع لم تطلع عليه. قلت: هذا وارد، ولكن الذي يظهر لي أنه غير موجود في غير الموطن الذي ذكرت، ولو كان موجودا فإنه في الغالب في أحكام الصلاة والمساجد (علما بأني بحثت عنه في هذين المكانين فلم أجده، والكلام الذي نقلته عن النووي في آخر أحكام الحج، فيكون هو الذي استقر عليه). قال النووي في المجموع بعد ذكر الزيادات التي زيدت في المسجد النبوي: (فإذا عرفت حال المسجد فينبغي أن تعتني بالمحافظة على الصلاة في الموضع الذي كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحديث السابق «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة» إنما يتناول ما كان في زمانه صلى الله عليه وسلم...) المجموع، ج8 / 277. ومن هذا النص يتبين ثبات النووي على قولٍ واحدٍ في شرحه لمسلم وفي كتاب المناسك وفي المجموع، ومن قال خلاف ذلك فعليه الدليل وبيان الجزء والصفحة التي ثبت فيها رجوع النووي. وظني أنه لم يرجع. والله أعلم. وجمهور أهل العلم يذهب إلى أن الصلاة مضاعفة في كل المسجد بما فيه من التوسعات الداخلة عليه قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (وحكم الزيادة حكم المزيد فيه في الفضل أيضًا فما زيد في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم كله مسجد والصلاة فيه سواء؛ سواء في المضاعفة والفضل. وقد قيل أنه لا يُعلم عن السلف في ذلك خلاف، وإنما خالف فيه بعض المتأخرين من أصحابنا، فهم ابن عقيل وابن الجوزي، ولكن روي عن الإمام أحمد التوقف في ذلك قال الأثرم! قلت: لأبي عبدالله: الصف الأول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أي صف هو؟ فإني رأيتهم يتوخرون دون المنبر ويدعون الصف الأول، قال: ما أدري، قلت لأبي عبدالله: فما زيد في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فهو عندك منه، قال: وما عندي، إنما هم أعلم بهذا يعني أهل المدينة، وقد روى عمر بن شبة في كتاب «أخبار المدينة» بإسناد فيه نظر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو بني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي) فتح الباري لابن رجب (1/292) والحديث لم يخل من ضعف، والآثار وردت كثيرة في هذا الجانب، وتدل على صحة المعنى، وكلها مقيدة للمسجد بالبناء، ولو كان الحكم يعم الحرم كله لما كان لذكر البناء والزيادات التي زيدت على ما بناه النبي صلى الله عليه وسلم كثير فائدة. (وقد ذكر الشافعية أنه لو حلف أن يدخل هذا المسجد، فزيد فيه فدخل موضع الزيادة لم يحنث، ولو حلف لا يدخل مسجد بني فلان فزيد فدخل فيه فدخل موضع الزيادة حنث، وهذا يشهد بأن حكم الزيادة حكم المزيد في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه عرف المسجد الحرام بالألف واللام ومسجده بإضافته إليه، ولكنه جمع بين الإشارة إليه وتعريفه بالإضافة فقال «مسجدي هذا» (تحفة الراكع والساجد في أحكام المساجد، ص / 139، 140). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومسجده كان أصغر مما هو اليوم وكذلك المسجد الحرام لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون ومن بعدهم وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام. (مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام، ج26 / 146) قال شيخ الإسلام رحمه الله: «لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت لمن ذكر ذلك سلفا من العلماء» الرد على الأخنائي، 126، ثم قال نور الله قبره وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء:- (وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده حكم المزيد تضعف فيه الصلاة بألف صلاة، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد فيجوز الطواف فيه، والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجًا منه). (ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمون كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده ويأمرون بذلك). الرد على الأخنائي، 125.. وهنا أعود إلى النقاط التي ذكرها الشيخ مستدلًا بها على مضاعفة أجر الصلاة في كل حرم المدينة، فأقول: الاستدلال الأول: واستدل الشيخ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك النافلة في مسجده ويفعلها في بيته إلا لكون الأجر واحدًا، وهذا الاستدلال في نظري محل نظر؛ وذلك لكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صرّح بلفظ عام يشمل مساجد الدنيا كلها ولم يستثن مسجدًا دون مسجد بأن النفل في البيت أفضل، وإخراج نافلة المدينة من اللفظ العام يحتاج إلى دليل، وهنا لا يوجد، بل يوجد الدليل الذي يفيد أفضلية النفل في البيت وخاصة للتي ليس فيها جماعة كصلاة التراويح، وحتى نخرج من الخلاف كله. قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) رواه البخاري (731) وعنون له مسلم بقوله: باب خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، ثمّ من المعلوم عند أهل العلم أنّ الفعل يكون فاضلا في مكان دون آخر، وكذلك في وقت دون وقت آخر، يقول شيخ الإسلام في الفتاوى (23/ 58): (العمل المفضول قد يقترن به ما يصيره أفضل من ذلك وهو نوعان: أحدهما ما هو مشروع لجميع الناس. والثاني ما يختلف باختلاف أحوال الناس. أما الأول فمثل أن يقترن إما بزمان أو بمكان أو عمل يكون أفضل)وختاما فإن القول بما يخالف النّص بلا نصّ يعد عند أهل العلم من القوادح، ويسمى عندهم فاسد الاعتبار. الاستدلال الثاني الذي استدل به العلامة الشيخ المنيع وفقه الله: أن إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم للنساء للصلاة في بيوتهن يدلّ على أن بيوتهن لها حكم المسجد من حيث المضاعفة. وأقول: لقد جاء نصّ صريح فاصل للنزاع إن كان ثمة نزاع هنا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (..وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي) رواه الإمام أحمد (27090) ففي هذا الحديث تصريح بأن صلاة المرأة في مسجد قومها خير من صلاتها في مسجده صلى الله عليه وسلم، ولو كان الأجر واحدا أو المضاعفة واحدة لما كان لهذا التفضيل والتخصيص معنى! الاستدلال الثالث: وفيه استدل الشيخ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بني سلِمة أن يسكنوا بجوار مسجده، وأمرهم بالمكث في ديارهم (حي القبلتين حاليا)، ولو لم يكن الأجر واحدا لكلّ حرم المدينة، لأدى لتفويت أجر المضاعفة عليهم! وأقول: إنّ في الحديث دلالة واضحة على أنّ المضاعفة خاصّة بمسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّ الحديث يرغبهم بكثرة الخطى، وأن من بعد داره عن المسجد كان أكثر أجرا ممن قرب داره، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: (دياركم دياركم تكتب آثاركم) رواه مسلم (1519)، وعنون له بقوله: باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد. ثم في الحديث بيان السبب لهم ولغيرهم في زمانه من عدم ترك بيوتهم، حتى لا تخلوا المدينة من أطرافها، و في ذلك نوع حماية وصيانة لها، ففي الحديث نفسه السابق: عن جابر بن عبدالله، قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم»، فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا. وروى البخاري (1887): ( عن أنس رضي الله عنه، قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تعرى المدينة وقال: «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم» فأقاموا) فالحديث واضح في بيان سبب مكثهم، وهو خشية أن تعرى –أي- تصبح المدينة خالية من أطرافها، لا أن فضل الصلاة في بني سلمة كفضل الصلاة في مسجده.الاستدلال الرابع والأخير وخلاصته: قياس حرم المدينة على حرم مكة، فكما تضاعف الصلاة في كل حرم مكة، فكذلك تضاعف الصلاة في حرم المدينة كله، والعلة الجامعة هي كون كل واحد منهما يسمى حرما. والجواب عن هذا الاستدلال: هو أن المضاعفة في مكة في كل الحرم دلت عليه نصوص مستقلة عَدَّت الحكم من مسجد الكعبة إلى كل حرم مكة، مع العلم أنّ مسألة المضاعفة في كلّ حرم مكة مسألة خلافية، اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال، بينما لا نجد هذا الخلاف في حرم المدينة، وهناك أمور خصّت بها المدينة لا تقاس مكة عليها، كسلب من وجد يصيد في حرم المدينة وغير ذلك من خصائص أخرى، مع أن القياس في الأمور التعبدية غير معقولة المعنى لا يجوز بلا خلاف، والله أعلم. المدرس في كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية وصاحب الموسوعة الفقهية المتعلقة بالمدينة النبوية [email protected]