يقول المفكر الكبير : محمد عابد الجابري ، في كتابه نقد العقل العربي ج4ص250، متحدثا عن طبيعة تشكيل الوعي السياسي في إيران : " كل شيء يدور حول كسرى ، وكسرى حاضر في كل شيء، يزاحم حضوره في وجدان الفرس حضور الله.والحق أن ( الدين والملك ) كانا توأمين فعلا، ليس في النظام السياسي الاجتماعي للدولة الساسانية وحسب ، بل في قلوب رعاياها أيضا، وذلك إلى درجة أن أحدهم لو أعلن أنه يعبد كسرى لما أثار ذلك استغراباً ولا استهجاناً من أحد كما يقول المختصون في الإيرانيات.ومن هنا كانت طاعة كسرى وطاعة الله من الأمور ( البديهية ) التي لا تكون موضوع نقاش .ومن هنا أيضا كان الخروج على طاعة كسرى يبدأ بالخروج عن الدين السائد " ما يقول به الجابري في هذا الحقل المعرفي ( الديني السياسي ) القصد منه تحليل وعي تاريخي لشعب من أعرق الشعوب ، ليس المقصود به انتقاص الإيرانيين المعاصرين ، كما لم يُرد ولم نُرد ربط إجمال المذهب الإثني عشري بالروح الفارسية ؛ كما يقول بذلك التقليديون هجاءً !. الحقيقة أن هذا الارتباط اللامعقول بين الدين والسياسة، ومزج المقدس بالبشري على هذا النحو ، نابع من تصورات إيرانية عميقة ، شكلت ( فهم ) المذهب داخل إيران ، ولم تستطع فرضه رغم كل المحاولات على خيارات المذهب خارجها. بدون فهم هذا( الوعي الإيراني ) لا نستطيع أن نفهم أزمة السياسة الإيرانية الحالية ، ولا أن نفهم أبعاد أزمة المرشد الحالي للثورة: علي خامئني .خطاب الإلهيات ، حيث كل شيء إلهي : زعيم إلهي ونصر إلهي ووزير إلهي وبيت إلهي وشارع إلهي ..إلخ، حتى لا يحتمل الواقع ( الواقع المتعين أو الواقع المُتخيّل ) أي نقد ؛ لأنه بواسطة هذا الخلط أصبح من المقدسات التي يجب تقبلها بتمام الخضوع والانقياد. وهذا أي الخلط كان أحد الأشياء التي حاولت الغفوة توظيفها لصالحها ، فكنت تسمع في خطاب محمد قطب وسيد قطب وتلاميذهما : الجيل الرباني والحكومة الربانية والمصدر الرباني والجماعة الربانية ...إلخ ، وذلك ليرفعوا أنفسهم وليجعلوا من أنفسهم ومن مشاريعهم السياسية وقائع فوق النقد ، يجب على الجميع الرضوخ لها ، وإلا أصبحوا كافرين بالحاكمية التي تفرضها هذه الإلهيات / الربانيات ، أي مشركين بالله !. ليس هذا الخلط بين الدين والسياسة كما صوّره الجابري تاريخاً غابراً ، منقطع الصلة بالراهن ، بحيث يكون ضئيل الأثر أو معدومة في سياسة إيران الحالية . بل على العكس ، بعد شرعنة هذا الخلط على يد الخميني ، أصبح يُمارس بجلاء ، ويتم تدعيمه بمقولات صريحة ، تُؤكد أن الحاكم / الولي الفقيه كائن إلهي في الواقع ، بل أحيانا تكاد تطابق بينه وبين الله عز وجل . فأحمد خاتمي ( وليس محمد خاتمي !) ، أحد أبرز أعضاء مجلس الخبراء ، يقول صراحة وبالنص : " مُخالفة الإمام المرشد تعني الإشراك بالله " . وعلي سعيدي (مُمثل خامئني في الحرس الثوري ) ، اعتبر طاعة أوامر المرشد بمثابة طاعة المهدي !. كل ما سبق ، حتى ما يخص البعد التاريخي ، يُكوّن عناصر أزمة المرشد (علي خامئني ) الحالية . الموروث الإيراني المُؤله الحاكم ، و الذي قام الجابري بتحليله على امتداد الفصل التاسع من الجزء الرابع من كتابه : (نقد العقل العربي ) يُوحي لخامئني في أعماقه اللاواعية أنه كسرى العصر الجديد . في إيران القديمة كان الملك نائبا عن الرب . واليوم ، خامئني يتصور نفسه نائبا عن الرب ؛ عبر وسيط غير مرئي / غير حاضر في الواقع ، أي أنه يتصور نفسه بحكم غياب الإمام نائبا مباشرا عن الله ! . هذا التصور (تأليه الذات) هو لوحده كفيل بأن يجعل أي حاكم يفقد توازنه الطبيعي ، ويُوغل في الاستبداد والاستعباد . لكن ، في حالة خاتمي ، يزداد الأمر سوءا ، فهو ليس فرداً إيرانياً يحمل على أكتافه عبء هذا الموروث فحسب، بل هو في فجر شبابه الأول ، التحق بمنظمة ( فدائيان إسلام ) التي أسسها الإسلاموي المتطرف : نواب صفوي ، وهي المنظمة التي قامت بكثير من الأعمال الإرهابية ، ومارست الاغتيالات التي طالت حتى المثقفين المخالفين ، باسم الدين . وعندما تم إعدام نواب صفوي ورموز المنظمة معه عام 1955م تشتت المنظمة ، ولكن بقيت فلولها تعمل في الواقع ، واستمرت روحها سارية في تيار المتشددين ، وكان هؤلاء المتشددون يُعلنون باستمرار ولاءهم لأفكار مؤسسها ، ولمنهجه العملي في التغيير ، ومنهم المرشد الحالي لإيران . أي أن خامئني تربّى على يد أشد الجماعات المتطرفة في إيران ، ولم يعلن في يوم من الأيام إدانته لأعمالها الوحشية زمن الشاه ، بل كانت خياراته ولا تزال ، ليست أكثر من تطبيق عملي واسع لتصورات نواب صفوي . في الوقت الذي تبعثرت كوادر هذه المنظمة الإرهابية (فدائيان إسلام ) ، كان قد بدأ على نحو خافت نجم الخميني في الظهور ؛ كعالم دين مُتسيّس راديكالي . وجد خامئني في الخميني ما يُلبي رغباته المتطرفة التي انغرست في وجدانه منذ أيام انضمامه إلى منظمة : فدائيان إسلام . كان الخميني واسع العلم وداهية ، يمتلك الذكاء الفطري ، ولكنه رغم ذلك كان دغمائيا إلى أقصى حد . وهنا اتخذ خامئني ، المتواضع في قدراته العلمية ، في الخميني مظلة عاطفية وإرشادية يستظل بها ويحتمي بقيمتها ؛ كما الطفل بأمة تماما . ومن هنا منح خامئني الخميني ولاءه المطلق ، منحه طاعته العمياء الصماء البكماء . ولم يُخيّب الخميني ظنه ، فقد جاءت خيارات الخميني متوافقة مع نفسية خامئني التي تميل للنفس الفاشي الذي لا يرتاح إلا عندما تُعلن الخضوع التام له جميع مكونات الواقع ، وجد خامئني في الخميني الاستبداد الذي يمنحه راحة ضمير لا حدود لها . وصل خامئني إلى المراتب السلطوية بدعم مباشر من الخميني ، فهو لم يمتلك المُؤهلات الذاتية للوصول . وبعد أن استطاع اكتساب ثقة الخميني ؛ بخنوعه المطلق له ، أصبح رئيسا للجمهورية معظم ولاية الخميني ، من عام 1981م إلى 1989م وفي هذه السنة مات الخميني ، وانكشف الواقع السياسي عن فراغ كبير ، فقد كان الدستور ينصُّ على أن من يتولى منصب : مرشد الثورة ، لا بد أن يكون وصل إلى مرتبة الاجتهاد . وكان منتظري الذي يحظى بهذه المرتبة قد أزيح عن نيابة الخميني قبل شهور من رحيل الأخير . مرتبة الاجتهاد كانت مرتبة بعيدة جدا عن متناول خامئني ، الذي كان ولا يزال رجل دين متواضعاً جداً في قدراته العلمية ، مقارنة ببقية مراجع الحوزة العظام . وكحل ، هو بمثابة حالة طوارئ ، تمت ترقية خامئني في سلم العلم / في سلم المكانة الدينية ؛ بعد أن أمسك بزمام الحكم ، واستمرت ترقيته في عملية غير مفهومة ، وغير مقبولة في تقاليد الحوزات العلمية ؛ مما جعل كثيرا من الأصوات العلمية الموضوعية تُعلن اعتراضها على هذه التجاوزات التي تنتهك قداسة العلم ، وتجعل مراتبه رهن رغبات رجال السياسة . ومن المعلوم أن لدى رجال الدين الشيعة حساسية تاريخية من مثل هذا الارتهان . هكذا وجد الولي غير الفقيه نفسه فجأة في مكانة قد تم حجزها بقوة الدستور للولي الفقيه . وباستثناء كوادر السلطة المباشرين ، لم يكن خامئني يحظى بأي احترام من لدن القيادات الروحية الكبرى . الكرسي الذي جلس عليه خامئني كان أكبر منه بكثير ، ولهذا لم يستطع حتى الآن أن يستقر عليه بارتياح . رتبته العلمية / الدينية المتواضعة لم تستطع توفير حتى الحد الأدنى من المشروعية له في منصبه الذي صُنع طوال فترة الخميني على أنه لشخصية دينية كبرى ، شخصية تكون قد وصلت لمرتبة الاجتهاد . مثّلت ( حالة عدم الفقه ) جرحاً كبيراً لا يزال نازفاً في قلب خامئني ، خاصة وأنه لا يمتلك كاريزما قيادية حتى في الشأن السياسي الخالص . وهذا ما جعل خاتمي وكروبي وموسوي ، ومن ورائهم جماهير غفيرة في إيران ، لا يقتنعون به سياسياً ، كما لم يقتنع به رجال العلم الديني من قبل في مجال تراتبية مراتب رجال الدين . مأساة خامئني أنه الفقيه المفترض لمنصب الفقيه ، ولكنه غير فقيه ؛ باعتراف الأغلبية الساحقة ( غير المنخرطة في العمل الحكومي ) من رجال الدين . خامئني ليس متطرفا ، ولا مجرد شخص غير معترف به كفقيه فحسب ، بل هو أيضا قائد الفشل السياسي الفظيع في إيران . فشل الثورة الإيرانية على امتداد ثلاثة عقود ، أول من يتحمل مسؤوليتها هو خامئني ، فهو رئيس الجمهورية لفترتين ، من 1981م إلى 1989م ، وبحكم مرض الخميني فقد كان هو الرجل الثاني دائما ، والرجل الأول في معظم الأحوال . ومن عام 1989م وإلى اليوم ، أي على امتداد عشرين عاما كاملة ، هو المسؤول الأول . وكان من المفترض في هذين العقدين خاصة ( إذ العقد الأول كان حالة حرب ، أو يمكن الاعتذار عن الفشل الداخلي بحالة الحرب ) أن تُحقق الثورة شيئا من الانجاز الذي تُبرر به مشروعية قيامها أصلا . لكن ، كان الأمر بالعكس ، فإيران طوال هذه السنوات ، تسير في الاتجاهات السالبة على كافة المستويات . إذن ، التراث الإيراني المُؤله للحاكم + النشأة المتطرفة + المشاركة في الإرهاب + الاستظلال بظل شخصية دغمائية حادة المواقف + اهتزاز المكانة العلمية + ضآلة الشخصية القيادية( = انعدام الكاريزما ) + الفشل في تحقيق أي تطور وفي أي بعد طوال فترة الحكم ، كل هذه شكّلت عناصر أزمة المرشد الحالي : علي خامئني ، وجعلته في مأزق داخلي رهيب ، مأزق لا يهدد وجوده في الحكم فحسب ، وإنما يُهدد وجود الجمهورية من الأساس . حاول خامئني مرارا الخروج من هذا المأزق ، واستطاع استمالة بعض رجال الدين ، من الصف الثاني خاصة ، وجرّب اليد الحديدية ، ومارس القمع وتزوير الانتخابات ، ولكن كل هذا لم ينهِ الأزمة الإيرانية المتفاقمة ، بل هي في ازدياد . إيران تكاد تنفجر من الداخل بفعل تخبطات خامئني الذي لم يعد يعنى به غير المنتفعين بوجوده كشخصية ضعيفة ، يُمكن أن يُؤكل بها كثيرا ! . آية الله منتظري أفتى مؤخرا بأنه يجب عزل الحاكم إذا فقد العدالة والأمانة وقمع الأكثرية ، ملمحاً إلى خامئني . للهروب من مآزق الفشل ، حاول خامئني وأنصاره توظيف الغيبيات الخرافية ، وكأن الشعب الإيراني لا يزال بدائياً ، بحيث يقتنع بمثل هذه الغيبيات . حاول الاستعانة بفرضيات تأليهه ، ولكن لم يقتنع معظم الإيرانيين أن أوامر شخص متواضع كخامئني هي أوامر الله . تم استحضار الديني بكثافة لخدمة رقاعة السياسة . آية الله خزعلي ، وهو أحد كبار المراجع المؤيدين لخامئني قال : إن السيدة الزهراء قد زارت أحد الصالحين في المنام وقالت له : دافعوا عن ولدي أحمدي نجاد . ماذا يظن هؤلاء ، هل لا زالوا يتصورون الإنسانَ الإيراني المعاصر رجلَ كهوف بدائياً ، يؤمن بمثل هذه الخرافات ؟ !. ربما كانت الوسيلة التي لاقت بعض النجاح المؤقت في صرف النظر عن التدهور في الواقع الإيراني هي ترحيل المشاكل إلى الخارج ، صناعة استشكالات سياسية خارجية ؛ لينشغل الناس بها عن مأساة الواقع الإيراني البائس . لهذا وجدنا إيران تتدخل في العراق وفي لبنان وفي غزة ، وتحاول تأجيج عواطف مواطنيها بهذه القضايا البعيدة ؛ لتنصرف العقول عن مساءلة فشل حكومة رجال الدين . إيران خامئني تُحاول أن تحارب وأن تفتح كثيرا من الجبهات ، ولكن ، ليس على الأرض الإيرانية . لا بد من وجود معارك ، حتى يمكن رفع شعار : لا صوت يعلو فوق صوت المعركة . لا بد من وجود عدو ، ولا بد أن يكون هذا العدو مستفزا للعواطف ، وهو هنا : أمريكا . لا بد من مواجهة أمريكا ، والصخب بهذا المبدأ ، ولكن يجب أن يجري ذلك بعيدا عن إيران ، في لبنان أو العراق أو غزة أو اليمن ، وأخيرا محاولة ممارسة ذلك حتى في ميادين العبادة الخالصة : الحج . المتطرف الذي يمزج الدين بالسياسة ؛ ليستخدم الدين وليس ليخدمه ، لا يتورع عن فعل أي شيء . فقهاء حكومة طالبان كانوا أفتوا لها بجواز زراعة الأفيون والمتاجرة به ؛ لأن الأموال ستُستخدم لإعلاء كلمة الله ، أي كلمة الملا محمد عمر الذي يرون كلمته مُوازية لكلمة الله . الإصلاحي : كروبي وصف قيادة بلاده بأنها ( طالبان الشيعة ) ، ولم يبعد في هذا الوصف ، فنقاط التشابه كبيرة بين هاتين الدولتين الغيبيتين المتطرفتين الإيديولوجيا الغيبية تقتل عقل الإنسان ، فكيف إذا تم توظيفها في الممارسة السياسية التي تتطلب أعلى درجات العقلانية ، عقلانية الواقع العملي . تصريحات خامئني الأخيرة ، بخصوص استخدام الحج للشعارات السياسية ، ليست تُعبّر عن مجرد هروب من مشاكل الداخل الإيراني فحسب ، بل عن عقلية لاتزال ترى العبادة وسائل سياسية . يقول خامئني : " إن موسم الحج يعتبر فرصة استثنائية للدفاع عن القيم الإسلامية وأن اجتماع المسلمين وخصوصاً الحجاج الإيرانيين سيفشل مؤامرات الأعداء ويزيد من وحدة المسلمين " . أين هم الأعداء في موسم الحج ؟ ولماذا تخصيص الحجاج الإيرانيين ، وما علاقة هذا التخصيص بأزمة إيران الحالية مع الداخل ومع الخارج ، وما هي وحدة المسلمين ، وكيف تكون الوحدة في سياق هذا التخصيص السياسي ؟ ، وضد من هذا التكتل ، وما هي هذه المؤامرات ؟ . كل هذه أسئلة لا يستطيع خامئني ولا أنصاره تحريرها بجواب واضح ، جواب سياسي ، لا ديني أوديني لا سياسي . الحاج العابد ، لا أدري كيف يستطيع أن يُفشل بطوافه وسعيه ورميه الجمرات مؤامرات الأعداء ؛ إن وجدت ؟ ! . هذه التصريحات أو التخريفات ، لا تكشف عن شيء أكثر مما تكشف عن أزمة العقل الغيبي عندما يريد أن يشتغل على سياسة عصرية مرتبطة بالواقع وعناصره ، ولا علاقة لها بالمبادئ النظرية ، خاصة الغيبية منها ، التي لم تعد تفعل في الواقع كما كانت في غابر الأزمان .