لعل أول ما يتبادر إلى ذهن من يعرف تاريخ مخرج الأنمي الشهير هاياو مايزاكي, أو على الأقل من حظي بمشاهدة بعض من أعماله، هو سؤال عن الجديد الذي سيقدمه في فيلمه الأخير، وماذا يمكن أن يضيف إلى تاريخه العريق؟، والذي ابتدأ في وقت مبكر، وعبر تحقيقه لأول فيلم من إخراجه (قلعة كالجيسترو-The Castle of Cagliostro) عام 1979م عن مانجا "لوبين الثالث" للمانجكا كازوهيكو كاتو، ومن ثم شهرته وبروزه من خلال فيلم (ناويشكا وادي الريح-Nausicaa) عام 1984م عن مانجا من رسمه وكتابته، ثم محطة العالمية مع جائزة الأكاديمية الأميركية -الأوسكار- عام 2001م، عن فيلمه (الروح المختطفة-Spirited Away). وعلى الرغم من أن عالميته وشهرته سبقت مع (جاري توتورو-My Neighbor Totoro) عام 1988م، ثم (الأميرة مونونوكي-Princess Mononoke) عام 1997م، إلا أن وهج جائزة الأوسكار كان قوياً، ليحمل روح "تشيهيرو المختطفة" وهي تتحدث بترجمة أو دبلجة معظم لغات العالم الحية، الأمر الذي جعل اسمه حاضراً مرة أخرى في أوسكار عام 2006م، مرشحاً عن فيلمه (قلعة هاول المتحركة-Howl's Moving Castle) عام 2004م. لكن لنتوقف قليلاً عن اختصار مخل لمسيرة أحد أبرز الأسماء المؤثرة في صناعة الأنمي، ولنعد إلى الحديث عن "بونيو". في عام 1910م نشر الروائي الكبير في حقبة ميجي "ناتسومي سوسكي"، روايته "البوابة" التي اختتم بها ثلاثيته الشهيرة، "سانشيرو" عام 1908م، "وفيما بعد" عام 1909م. يحكي سوسكي في "البوابة" عن زوجين شابين؛ سوسكي وزوجته أويوني، ومعاناتهما العاطفية، ثم أزمة دخول شقيق سوسكي الأصغر معترك حياتهما، ودون الخوض في تفاصيل الرواية والتشتت عن سبب إيراد ذكرها، أجد أنه من المثير أن نعرف أن منزل سوسكي كان يتربع على ربوة عالية، كما هو حال منزل الطفل سوسكي اسم الشخصية الرئيسية في فيلم "بونيو"، وهو تشابه لا يمكن أن نعزوه إلى الصدفة، وبالأخص أن السيد مايزاكي يكن تقديراً كبيراً لأديب ميجي. مايزاكي لا يتوقف عن سيل الإحالات والاقتباسات التي يحققها في فيلمه الأخير، وكأنه يهيئ لنا فكرة اعتزاله، فرسم ملامح الشخصية الداخلية والنفسية والظاهرية إلى حد ما لشخصية سوسكي، تم خلقها بالاعتماد على ما يتذكره مايزاكي عن ابنه غورو عندما كان في الخامسة من عمره، حتى في تعلق سوسكي الشديد بأمه التي يناديها باسمها المباشر على غير عادة اليابانيين، وابتعاد أبيه عن البيت فترة طويلة كونه بحاراً يجوب البحار، مثلما كان مايزاكي بحاراً مشغولاً في محيط صناعة الأنمي واستديو غيبلي، حتى السفينة التي كان يقودها والد سوسكي في الفيلم كانت تحمل اسم كوجاني مارو، وموقع استديو غيبلي في الجزء الغربي من مدينة طوكيو، يقع بالتحديد في ضاحية كوجاني. وسنرى في مشاهد لاحقة أن والدة سوسكي، الشابة النشيطة ريزا، والتي يغضبها غياب والد سوسكي الدائم، تغني له افتتاحية "جاري توتورو". سيكون مدهشاً ما يمكننا استقراؤه من حياة مايزاكي في هذا الفيلم، زوجته ووالدته وابنه، ورغبته في أن يقول لهم شيئاً. إن الأمر لا يتوقف عند حدود حياة مايزاكي الشخصية، بل أن ما يزاكي يضع لنا بعض الإشارات التي تدعونا لفك رموزها مثل الرقم 1907، والذي نراه على بوابة الغرفة التي يدخلها فوجيموتو غريب الأطوار، ليملأ بئر الأعاصير بسائل مشع أخضر اللون، البئر الذي ينفجر ليعصف بطوفانه العظيم عالم مدينة سوسكي، مستحضراً حيوانات ومخلوقات ما قبل التاريخ، وعوالم فانتازية بألوان مبهجة وخلاقة، إنه باعتقادي الشخصي طوفان الأنمي الذي انفجر مع أول فيلم أنمي في اليابان عام 1907م. قصة الفيلم تبدأ مع هروب حورية صغيرة "بونيو"، من غواصة عجيبة، كعادة مايزاكي في تصاميمه المبهرة، هذا الهروب يتطور مع ظهور شخصية سوسكي الطفل البشري، الذي يحمل "بونيو" الحورية ذات الجسد البحري المكتمل على غير عادة الحوريات اللاتي يظهرن في أفلام السينما أو الرسوم المتحركة، يحاول التأكد من كونها على قيد الحياة، وبعد أن تقوم بلعق الدم الذي ينز بهدوء من جرح أصاب إصبعه أثناء التقاط "بونيو" من الشاطئ، يتعلق كل منهما بالآخر، وتبدأ التحولات الكبرى في حياتهما. هنا يظهر "فوجيموتو" الذي يبدو أقل عدائية من الشخصيات الشريرة التي تظهر عادة في أفلام مايزاكي، لديه الكثير من النوايا الحسنة يحملها في قلبه للطبيعة، لكنه في المقابل يأخذ على عاتقه كره البشر بسبب تدميرهم لها، وهنا نستحضر الأزمة الغالبة في أفلام مايزاكي، البيئة وهمّ المحافظة عليها، ومن هذا المنطلق يحاول فوميكو أن ينقذ ابنته "بونيو" من عالم البشر، لكن أوان ذلك تأخر، لأنها قد بدأت بالتحول تدريجياً إلى بشرية، ثم نشاهد "فوجيموتو" وهو يحاول أن يمنع هذا التحول بيديه العاريتين، إنه هاجس الأبوة المعروف في إبقاء طفله في مرحلة ما ولو ذهنياً. تبدأ الأحداث في التداخل، والدتا سوسكي وبونيو، الطوفان وتعاضد سكان المدينة في وقت الأزمة، ثم الاختبار الذي يوضع فيه سوسكي لإثبات استحقاقه صداقة بونيو، التي تتخلى هي الأخرى عن قدراتها السحرية من أجل أن تعيش كبشرية. أفلام مايزاكي على الدوام ذات ميزانيات ضخمة، وهناك جهد واضح في تحقيق لقطات المال، والعمل بشكل كبير على الخلفيات، ووجود شخص مثل "كازو أوقا" في وحدة الرسم، يجعلنا نشعر بالطمأنينة من أن العمل سيكون على خير ما يرام. إنه لمن المثير أن نرى كيف تم استخدام ألوان الباستل والألوان المائية من أجل خلق شعور مضاعف بالتحريك أو للتحريك نفسه، وسيرى المشاهد فيضاً من المياه المتعددة الصور والأشكال في هذا الفيلم، كما أن عدد خلايا الرسم المستخدمة في عملية التحريك النهائية بلغ مائة وستين ألف وحدة. مايزاكي هاياو مايزاكي يستفيد من تاريخه الفني العريق، ويخلق بعض أجمل اللقطات في تاريخ الأنمي الحديث، أسلوب التقريب والمباعدة عن طريق التحريك فقط، الاستمرار بلقطات مطولة بدون قطع، الاعتماد التام على رسم اليد فقط، وغير ذلك من الأساليب التي ما زالت تقدم الدهشة لجمهورٍ يعرفه جيداً، ويصبغ عليه لقب سيد الأنمي المعاصر بدون منازع. جو هيساشي كعادته، يستحضر أرواح المشاهد المتوهجة بأقلام رسامي استديو غيبلي، حيث يستمر في تعاونه الثامن مع مايزاكي، محققاً لموسيقى تصويرية فيها من عبق الطفولة وحلم المستقبل ورثاء الحاضر ما يكمل مسيرته السابقة مع استديو غيبلي، ينوّع مرة أخرى مع الفنان الذي يتجانس بصوته العذب مع ألحانه الهادئة لإبداع الثيمة الرئيسية لسوسكي وبونيو. (بونيو على المنحدر-Ponyo on the Cliff)، يؤكد أن مايزاكي ما يزال حاضراً وبقوة في المشهد الإعلامي الياباني، وأن مسيرته الطويلة أضافت إلى صناعة الأنمي كثيراً، وأنه وعبر هواجسه المتكررة عن الاغتراب الكبير للإنسان المعاصر وقطيعته مع أمه الأرض، ينفرد بمسار يعزف فيه لوحده وبطريقة مغايرة لغيره، مما جعلها بصمة له في مجمل أعماله. تلك الأعمال التي يحققها في شخوص أطفال غالباً ما يكن من الإناث، في إشارة إلى طبيعة الأرض الأنثوية، وأمل باسترداد طفولتها وبراءتها التي عبث بها الإنسان المتحضر بحسن نية أو سوئها، ولو على يد تسونامي!.