ترحل الشابة الريفية مرتا من قريتها اللبنانية إلى نيويورك، وعندما تلمح تمثال الحرية المنتصب على الأطلسي، تخاله العذراء مريم، فتمتم صلاتها الخائفة. وهكذا تصبح الدهشة والغفلة المقولة الأولى في رواية ربيع جابر الجديدة " أميركا " الصادرة عن المركز الثقافي العربي ودار الآداب معاً. وعلى أساس مسردوات هذه المقولة، يبدأ الراوي رحلته مبحراً في زمن الهجرة الجبلية اللبنانية إلى أميركا مطلع القرن العشرين إلى منتصفه، يوم غدت تقاليد تلك الهجرة راسخة على امتداد عقود طويلة سبقتها. وكما في الكثير من روايات جابر، يستوي التاريخ تجارب فردية تسير على خط مستقيم محاذية مدوناته، فشخوصه المنزوية لا يكتبون ذلك التاريخ، بل يتعين وجودهم على إيقاع أحداثه. وفي الظن أن روايات من هكذا نوع تستخدم التاريخ مسوغا لإرساء نوع من الكلاسيكية الجديدة التي تقيم معمارها على كتابة منشغلة بفكرة التكوين الأولي للسرد أي التصوير والتقرير. وإن ظهر المكان الأميركي في هذه الرواية مكانا خاصا بالمهاجرين السوريين، كما كان يطلق على كل القادمين من البلاد الممتدة بين الشام ولبنان وفلسطين، فأميركا والحالة هذه، لم تعد مكانا مدهشا أو صادماً أو معادياً، بل هي بلد الثروة والخبرة والفرص الذهبية. وهكذا يبرز الاختلاف بين صورة أميركا عند ربيع جابر وصورتها عند كتاب آخرين، وخاصة كتاب مصر الذين يرون فيها مكانا للعدوانية والشرور. مرتا الطيبة والجميلة والعصامية، في رواية ربيع جابر، تذهب إلى أميركا بحثا عن زوجها الذي انقطعت أخباره ورسائله، فتصدمها حياته التي بز فيها مواطنيه الجدد، فهو المغامر والمقدام، يبحث عن التوطن في المكان، فيجيد الإنكليزية ويتزوج بأميركة ويقيم معها في مزرعتها ويمارس حياته سيداً مطاعاً. تذهب مارتا إلى تلك المزرعة بعد أن تتسقط أخباره المشتتة، ولكنها بعد الصدمة تستعيد حياتها الشخصية، فتتجاوز انكسارها وخيبتها من خلال الكدح والتصميم على النجاح. سنراها في النهاية تصل إلى مبتغاها لتستريح في مزرعتها هي الأخرى، وتروي قصتها إلى الأبناء والأحفاد بعد أن تزوجت من لبناني درزي مات في منتصف عمره، فظلت ذكراه وذكرى خليل (جو) زوجها الأول، محلقة في سماء حياتها. رحلة مرتا أو مارتا اللبنانية المتأمركة، التي تقوم عليها الرواية، ترتكز على عنصر يشد القارئ في كل زمان ومكان: قصة تقف عند جمال البطلة وطيبتها وثباتها على العمل، حيث يمزج السارد صورة الإنكسار الأنثوي مع الصلابة والتعفف عن الرغبات بما فيها رغبات الجسد. لعلها بين الروايات التي يعاكس فيها الروائيون الرجال بنات جلدتهم من النساء الكاتبات، فالرواية تخلو من المغامرات الجسدية، بل تبقى البطلة في كل مفاصل الرواية، على صلة مع طهرانيتها المسيحية وغفلتها القروية، متجنية كل الأعين النهمة التي تلاحقها والأيادي التي تمتد بالرعاية والإنقاذ من أجل جمالها الاستثنائي وعذوبة وجودها. بل لا تفصح هذه المرأة عن رغبتها في علاقة مع رجل إلا بعد أن يموت زوجها الأول في الحرب. لا طرق متعرجة تمر بها حياة مارتا، ولا مغامرات غير مغامرة العمل الذي تصعد فيها من مهنة الكشاشين وأصحاب الحقائب، وهم الباعة المتجولون في القرى والمدن الأميركية، إلى مالكي مخازن الملابس ومعامل الخياطة. وبسبب جمالها ونواياها الطيبة وتعاضد المسيحين من أبناء طائفتها، تجد البطلة فرجاً في كل منعطف، فهناك في كل مطرح من يمد يد المساعدة لإخراجها من أي مأزق. شخصية البطلة على هذا الاعتبار، تلغي فكرة الصراع بين المغتربين أنفسهم، كما هو الحال مع الشخصيات الهامشية الأخرى التي لا تظهر إلا على نحو شبحي، فوجودهم يستظل بالشخصية المركزية. تقوم مفاصل الدراما الأساسية على فكرة انتقال الثقافات بين الأماكن، ليس فقط المكان الأميركي الذي تحول إلى مقاه وأحياء بأكملها للسوريين أو "التركو"، كما كان يطلق عليهم، بل أن الجبل اللبناني نفسه شهد تحولات جلبها المهاجرون العائدون إلى قراهم على نحو موقت أو دائمي. وهكذا نتابع التداخل الثقافي عبر النماذج التي تقدمها الرواية، فمارتا تتخلى عن زيها الفلاحي وتلبس اللباس الغربي والقبعة التي تشير إليها كسيدة أعمال أميركية من مطلع القرن العشرين. أما زوجها الأول خليل (جو) فيتطوع في الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الأولى، ولكن خياره كان محض خطوة إلى الانتحار بعد أن خسر زوجته الأميركية وفشل في استعادة مارتا التي ترفض اللقاء به. خطواته البعيدة في التأمرك، ابعدته عن حاضنته الأولى، أبناء وطنه المتأمركين ولكن على طريقتهم الخاصة. لا نجد في الرواية ما يشكل كشفا لإشكالية ما، تتجه بها عمقا نحو تقاطعات موضوع الهجرة والاقتلاع، وهذا لا يشمل فقط خطابها، بل تقنياتها التي تضعها في أفق ثابت وليس متحركاً. قصص الناس التي تعني بفكرة الغريب الذي يحل في مكان جديد، هي حالة برانية لوعي مفهومي حول إشكالية الوجود المتحقق في مكانين وذاكرتين، وعلاقة الصراع والتناشز بين المكانين والذاكرتين تتشكل من عناصر الوعي الظاهرة والكامنة في الحالة بمجموعها، وهي في حركتها الداخلية مادة روائية لطالما اغترفت منها الروايات العالمية التي تعني بموضوع الهجرة. لجأ ربيع جابر في هذه الرواية إلى تنظيم فوضى المحكيات والحوادث عبر توحيدها في خطاب يجنبه اللعبة الروائية التي تخرج عن الإيحاء بالمحاكاة، فهو حريص على وضع تلك العبارة المتكررة في غير رواية له " هذه الرواية من نسج الخيال، وأي شبه بين أحداثها وأشخاصها وأماكنها مع اشخاص حقيقيين وأحداث وأماكن حقيقية هو محض مصادفة ومجرد عن أي قصد." لعلها حيلة لإيقاظ الفضول عند القارئ، فالحدث الحقيقي، مثل الجريمة الحقيقية تثير اهتمام القارئ، ولكنها أيضا، وعلى نحو ما، تجعل القارئ متلقيا سلبيا وليس مشاركاً في تأويلات مفتوحة على التوالد.ولا يحتاج الروائي أن يضع في مقدمته ملاحظة تقول أن هذه الرواية من نسج الخيال، فهذا تأكيد على رد تهمة تتطلبها اللعبة الروائية كي لا تكون أسيرة واقعيتها المتعينة في حوادث تاريخية أو شخصيات أو زمن أو مكان محدد. ولكن هذه الحال لا تقلل من قدرة هذه الرواية على جذب الاهتمام وشد القارئ على امتداد صفحاتها الطويلة (431 صفحة)، فالسارد وهو الشخص الثالث يروي الحوادث والمشاهد التي مرت بها البطلة في تنقلها بين الأماكن، ولا تفترض التقنية تشابكا بين تلك الأحداث، فهناك فصول أو مقاطع توحي بمناخ عام، ولكنها تأتي وكأنها تستكمل تصوير الوضع الاجتماعي للمهاجرين، وبينها وثائق حقيقية أو متخيلة تدخل في نسيج المرويات كي تعزز المنحى البحثي للرواية. ربما يهدف المؤلف إعادة تأسيس الكلاسيكيك الروائي في القص اللبناني، عبر محاولته تخييل أبجديات التواريخ والوقائع اللبنانية، ولكنه عندما ينزع عنها عنصر التجريب والبحث عن مغامرة جديدة في التقنية وإعادة تركيب المضامين والخطابات، تستوي اللعبة الروائية أقرب إلى مهمة اجتماعية.