للفنان التعبيري النرويجي الجنسية ادفار مونش لوحة شهيرة، أو الأرجح أنها اللوحة الأشهر في كل أعماله، والأهم أيضا، رغم أنها – فنياً – لا تمتع بقيم جمالية عالية كان قد أسماها حين رسمها في العام 1893م "صرخة الطبيعة " ثم غير النقاد أو المترجمون عن النرويجية اسم اللوحة الى " صرخة " فحسب، وربما يشير الى قيمة وأهمية تلك اللوحة عدد المرات التي سرقت فيها منذ أن أودعت في ناشيونال جاليري في أوسلو، والمحاولات المستميتة لاستردادها، وملايين الدولارات التي تنفق في تلك المحاولات، لكي تعاد سرقتها من جديد، وأحيانا تسرق في وضح النهار، ومرات يترك اللصوص ورقة طريفة مثل " ندين بالشكر للحراس المتعبين " الى أن وضع المتحف جهازا لحماية اللوحة تكلف ستة ملايين دولار، ولا أظن أنه سيفلح أمام اصرار لصوص اللوحات وحيلهم الخارقة. لماذا كل هذه الأهمية للوحة تكاد تبدو من عمل تلميذ يمارس تمارينه بشكل غفل، فهي عبارة عن خطوط عريضة وعرضية بلون ناري تشبه موجات البحر، تتلوها مساحات مثلثة بلون أزرق داكن قريب من الأسود يحتل مركز اللوحة ويوعز بشكل رأس طير خرافي كذلك الطائر الذي رأينا سندباد معلقا بين أظافر رجله، ثم طريق يقطع طرف اللوحة من الزاوية السفلى الى اليسار فوقه شبح رجلين بعيدين .. وفوق هذه الخلفية كلها يبرز في الواجهة وجه انساني يصرخ، ولشدة الصرخة وضع يديه فوق اذنيه حتى لا يصاب بالصمم. السؤال هنا – اذا تجاوزنا الدهشة عن حظ اللوحة من الأهمية والشهرة- أننا لدينا طبيعة دموية تصرخ، وشكل انساني يصرخ، أيهما يشير الى ألم الثاني؟ هل تتألم الطبيعة لألم الانسان، أم يفزع الانسان لألم الطبيعة؟ ما كتبه مونش عن لوحته يقول فيه : " .. كنت أتمشى واثنين من أصدقائي وقت الغروب وفجأة تنبهت الى أن الأجواء العليا قد أصبحت دامية، تمتد منها ألسنة من النار، على حين تبسط الدماء نفسها فوق قتامة الأرض والمنازل الداكنة بسواد الظلمة، توقفت وأنا أرتعد بينما سار صديقاي،.... وفجأة أحسست بصرخة أبدية تسري في عصب الطبيعة أكاد أسمعها .." أظن أن الفنان قد لامس هنا سرا من أسرار ما حظيت به اللوحة من أهمية، ذلك الألم الانساني فوق أي احتمال بشري، صرخت به الطبيعة فزعة من هوله، أو ربما مشاركة له أو رغبة في أن تحمل عنه شيئا من رزئه الفظيع .. كان مونش يتمشى مع صديقيه، لا شيء يقلقه أو يزعجه أو يحزنه فألهمته الطبيعة درسها: ليس كل الناس مثلك، فهناك من تعجز الدنيا عن حمل جزء من ألمهم الا بانخراط جماعي – الطبيعة والبشر – في صراخ.. وحقيقة أتأمل بدوري الدرس، وأجزم أن ما رآه فنان مثل مونش، وما سمعه لم يكن إلا الصدى، فإن كان لدينا فنان يرغب في الوصول الى منبع صراخ الطبيعة مع الانسان قدمت له تذكرة مجانية ليرى الفتاة التي تطلق الصراخ من بنات العراق في مخيمات الحدود، أو ليرى فتاة فلسطينية فوق أي جزء من أرض فلسطين، بلغ صراخها حداً أصاب الجميع بالصمم، فما عادوا يسمعون.