في عام 1892، فيما كان مقيماً لبعض الوقت في مدينة نيس جنوبفرنسا، كتب ادوارد مونخ، في يومياته السطور الآتية: «كنت أعبر الطريق مع صديقين لي. وفي تلك اللحظة كانت الشمس تغيب، وفجأة اصطبغت السماء بلون الدم الأحمر القاني... فتوقّفت مستنداً الى الحاجز وأنا منهك حتى الموت... كان لون الماء من ورائي قد صار أسود على شيء من الزرقة الغامقة، أما المدينة فبدت لي مغمورة بأمواج من الدم تلتهمها ألسنة ضخمة من النيران. واصل صديقاي مسارهما، فيما رحت أنا ارتجف من الألم شاعراً بأن ثمة صرخة طويلة لا نهاية لها تعبر الطبيعة كلها...». من الواضح ان هذه الرؤية التي دوّنها قلم مونخ، قبل عام من إنجازه تلك اللوحة التي ستصبح لاحقاً من أشهر أعماله، «الصرخة»، انما تصف حرفياً ما رسمه فنان النروج الاكبر في ذلك الحين، في تلك اللوحة... وبعد هذا، هل يهم حقاً ان يكتشف مؤرخ الفن الأميركي روبرت روزنباوم وجود مومياء من البيرو في «متحف الانسان» في باريس، تشبه تماماً الشخصية الرئيسة في لوحة «الصرخة»؟ إن ما يقوله روزنباوم صحيح تماماً وفحواه ان مونخ قد تمعن في تلك المومياء كثيراً قبل ان ينقل ملامحها الى لوحته، هناك تعابير الوجه الميت نفسها، واليدان نفسهما تمسكان بالوجنتين في حركة هلع ومعاناة حقيقية، بما لا يدع اي مجال للشك في ان تلك المومياء هي المرجع الاساس الذي استند اليه الرسام لتصوير الصرخة التي ستعتبر لاحقاً - الى جانب أعمال فان غوغ - في جذور الفن التعبيري الألماني. ولكن هذه المرجعية لن يفوتنا ان نراها مقتصرة على الشكل فقط. ذلك ان المعاناة التي تبدو لدى المومياء فيزيائية بحتة، وتتعلق بالرعب أمام الموت، تتحول في لوحة ادوارد مونخ الى معاناة داخلية تماماً لها علاقة مباشرة بالرعب أمام الحياة. وفي بعدها هذا، تنتمي لوحة «الصرخة» بالتأكيد الى تلك السلسلة من الاعمال التي انصرف مونخ الى انجازها خلال الاعوام الاخيرة من القرن التاسع عشر تحت عنوان عام هو «لوحة الحياة» وتضم الى «الصرخة» لوحات له مملوءة بالمعاناة والموت والألم، مثل «رماد» و «المرأة في ثلاث مراحل من وجودها» و «ذات مساء في جادة كارل - يوهان». والحال ان الموت والألم لم يكونا شيئاً جديداً او طارئاً في حياة ادوارد مونخ الذي كان في ذلك الحين في نحو الثلاثين من عمره، ذلك ان سيرة حياته تقدمه لنا منذ الطفولة ابناً لأسرة أحاق بها الموت باكراً، اذ اختطف الأم والشقيقة الحبيبة، وأحال قلب الأب قاسياً كالجماد. وهذا ما جعل ادوارد يعيش الموت والقسوة منذ طفولته، وجعله لاحقاً، حين اختار الرسم طريقاً لحياته وللتعبير عن ذاته، يملأ لوحاته بالمرضى والمحتضرين وبالألوان الكئيبة والوجوه المكفهرّة... إن لم تكن وجوه أموات يسيرون لا يلوون على شيء، كما هي الحال في تلك المجموعة من الاشخاص الذين يسيرون ليلاً في لوحة «ذات مساء في جادة كارل - يوهان». وقد قالها مونخ بنفسه: «إن المرض والجنون والموت كانت هي الملائكة السود التي أحاطت بي منذ كنت في المهد». ومن الواضح ان مونخ عبّر في لوحاته، وخلال الجزء الاكبر من حياته، عن ضروب الذهان والرهاب التي اشتغلت عليه دائماً. ولأنه عرف كيف ينقل هذا كله الى لوحات لا يشعر المرء وهو ينظر اليها بأقصى درجات القلق والرعب، كان من الطبيعي ان ينصرف الجمهور عن تلك اللوحات الى درجة ان ادارة معرض الخريف في برلين اضطرت الى سحب لوحات له عرضت في ذلك المعرض، تحت ضغط تظاهرات صاخبة عام 1892. ومهما يكن من امر، على رغم ان ادوارد مونخ رسم كثيراً من اللوحات، وظل على نشاطه الفني طوال ما يقرب من ستة عقود، تبقى لوحته «الصرخة» هي الأشهر... وربما هي - أيضاً - الاكثر تعبيراً عن المشاعر التي كانت تتآكل الانسان المعاصر وهو يستعد لولوج القرن العشرين. وعلى هذا تحوّلت تلك اللوحة التي كان يفترض بها ان تكون الاكثر ذاتية بين اعمال مونخ كلها، الى عمل يعبّر عن زمن وعن علاقة الانسان بذلك الزمن في شكل عام. معروف ان ادوارد مونخ رسم اكثر من خمسين تنويعة على لوحة «الصرخة» خلال عامي 1892 و1893، ومع هذا فإن اللوحة الاشهر، او التنويعة الأشهر، تظل تلك الأساسية التي كانت، قبل ان تفيد الأنباء بأن لصوصاً سرقوها، معلقة في «المتحف الوطني» في أوسلو، عاصمة النروج. و «الصرخة» التي سيعمل عليها المحللون النفسيون تحليلاً وتفسيراً طوال القرن العشرين، يكمن عنصرها الأساس في انها صوّرت معاناة الانسان وألمه وسط الطبيعة التي كان يفترض بها اصلاً ان تكون له عزاء... اذ إن الرسامين الآخرين الذين ماثلوا مونخ في التعبير عن تراجيديا العصر (من أمثال جيمس انسور، البلجيكي معاصر مونخ)، كانوا دائماً يصوّرون معاناة الانسان وسط حداثة العصر، في المدن وشوارعها غالباً. ومونخ نفسه، في لوحات عدة أخرى له، عبّر عن ذلك، اي عن معاناة انسان العصر واضعاً إياه داخل أمكنة عصرية. لكنه في «الصرخة»، شاء - كما هو واضح - ان ينقل المعاناة من حيّزها الظرفي البيئوي، الى حيزها العام... وعلى هذا النحو صوّر صرخة انسانه، وسط ذلك المناخ الطبيعي: رسم الصرخة على فم شخصية اللوحة الاساسية، وفي عينيها وفي حركة يديها، ثم في حركة الجسد في شكل عام. لكنه لم يكتف بهذا، بل جعل الصرخة تمتد وتمتد الى الخليج المائي فإلى السماء فإلى ما يظهر من المدينة، وصولاً الى الطريق والمركب... انها كلها تساهم في تلك الصرخة، كما تساهم فيها الألوان التي صبغ بها مونخ كل شيء هنا: ألوان لا تأتي من الطبيعة بل من داخل الروح القلقة، بل الميتة، وحيث الألوان نفسها التي كان رآها خلال سيره مع صديقيه (نراهما في اللوحة الى اليمين في مشية من الغريب انها تشي بأنهما الوحيدان، وسط كل ذلك المناخ العابق بالألم، اللذان يواصلان سيرهما من دون ان يشعرا بما تشعر به الشخصية الرئيسة في اللوحة!). لقد مال الباحثون دائماً الى التشديد على الجذور الشخصية للمعاناة التي عبّر عنها مونخ في «الصرخة». ومع هذا لم يفتهم في الوقت ذاته ان يجدوا مرجعيات لها لدى دوستويفسكي - كما وصف مصير الانسان وألمه - ولدى سورين كوركغارد - الفيلسوف الوجودي المنتمي كما حال الرسام الى الشمال الأوروبي -، وأن يقاربوا بين تعبير مونخ وتعبيرات نيتشه، علماً أن واحدة من أجمل اللوحات التي صورت هذا الاخير كانت من رسم ادوارد مونخ. مهما يكن من امر، فإن المعاناة التي لطالما عبّر عنها مونخ، وأوصلها الى ذروتها في «الصرخة»، طبعت الجزء الاول من حياته، اي قبل وصوله سن الكهولة، هو الذي عاش اكثر من ثمانين عاماً (بين 1863 و1944)، اذ انه بعد ان أمضى العقود الأولى من حياته متنقلاً بين باريس وكوبنهاغن وبرلين، عاش معظم وقته الباقي بالقرب من أوسلو خلال العقود الأربعة الاخيرة من حياته، وصار مكرّساً كواحد من مفتتحي الحداثة الفنية، ما خفّف من غلواء الألم والموت في لوحاته، وطبع اعمال عقوده الاخيرة بنوع من الهدوء والتلوين الهادئ، انما من دون ان ينكر ان الألم كان وبقي حتى النهاية، مصدر إلهامه الاول والاخير. [email protected]