من عاصروا مراحل التأسيس عندما بدأت المدن تأخذ أبعادها في المنشآت الحديثة، والإنسان يضع في أهدافه حيازة أي شهادة يخرج بها من أمية الأسرة والمجتمع، للوظيفة المدنية، وكيف أن مريضاً يحتاج إلى عملية بسيطة يوفر جزءاً من دخله ليجريها في بيروت، وأن أمنية أي طالب يتطلع للحصول على شهادة جامعية، أن يجد مقعداً في إحدى جامعات مصر.. هذا الحراك الاجتماعي الذي بدأ بسيطاً، نشهد نتائجه اليوم، كيف استطاعت أجيال الخمسينيات والستينيات سد ثغرة الوظيفة الحكومية المدنية والعسكرية، ليأتي أبناؤهم بشغل أطباء المستشفيات وكراسي الجامعات وميادين الاقتصاد والصناعة متطلعين إلى الاندماج في بيئات البحث العلمي، والقضاء على أمية الحواسيب والعلوم والهندسة وغيرها في سد ثغرات لا نزال نتطلع لملئها.. التطور الاجتماعي يعتبر أخطر المواجهات مع التحديث والانتقال من حالة أمية الكتاتيب للوصول للجامعات باختصاصاتها العلمية والاجتماعية، فمثلما نستطيع إنشاء المدن والمصانع والمطارات والمدارس وغيرها، وجلب عمالة خارجية تحركها فإن مثل هذا العمل يعد استيراداً لا إنتاجاً، لكن حين نرى زحف مئات الآلاف من الطلاب نحو الدراسات العليا والجامعية ومعاهد الاختصاص، فهنا يأتي الاستثمار الأمثل في الإنسان، ولعل البدايات المتواضعة عندما أنشئت كليات في العلوم النظرية والدينية لتتطور، وتصبح مخلوقات جامعية بمختلف الاختصاصات، لكن أن يصار إلى تطوير الكليات لجامعات لتكون بمستوى العالم المتقدم، فهنا يأتي الخيار الموضوعي، وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تأتي قفزة أخرى على نمط من التعليم يوفر تطلعاتنا واحتياجاتنا للوصول إلى عالمية هذه الأكاديميات، ولعل الحافز المهم في إنشائها سيجعل المنافسة بين جامعاتنا أكثر جدية، بمعنى أن السباق لن ينحصر في الكم من عدد حاملي الشهادات بمختلف المراحل، وإنما بنوعية هذه الكفاءات وتأثيرها اللاحق على المجتمع وتطويره، وخلق كوادر تقف على نفس الدرجة مع الكفاءة في الدول المتطورة.. فالذكاء لم يكن حصراً في نوع أو جنس، وعندما تحصل الفرص لمجتمعات لديها قابلية التطور، والاستجابة، فإنها ستكون قادرة على إحداث النقلات الكبرى في حياتها ، ونحن مجتمع شاب تحكمه تقاليده، ولكنها ليست لازمة أبدية أن لا تحدث التحولات في توجهها، ومن يعتقد أننا نذهب في الاتجاه المعاكس للتطور يخطئ حتى لو ظلت بعض الكوابح معيقة، لكن أمام خروج المركزية الكونية المحتكرة لكل تطور، وتجاوز العالم حلقة الوطن إلى العالمية، فإن ذلك فرض إيقاعه في الشراكة وصولاً إلى منجز جديد ، وفي ظل ظروفنا الاقتصادية التي أتاحت لنا أن نختار التعليم كلازمة ضرورية وتحد كبير، فإن قائد هذه المرحلة الملك عبدالله، هو من استطاع أن يطوّع الظروف ويجعل مهمة التعليم ليس إنتاج قدرات محددة، بل لا بد أن يكون المعمل ومركز البحث، واكتشاف الكفاءات النادرة، مهمته الأساسية، ويكفي أن شهادة شخصيات عالمية مرموقة بجامعة الملك عبدالله لا تأتي لتبارك لنا بمظهر عام، وإنما لتؤكد أننا نخطو باتجاه القفزة النوعية في أهم ميادين تأهيل الإنسان ورقيه.. هذه الجامعة لم تأت كعنوان للمفاخرة، أو شكل من مظهر ما، بل جاءت لتؤسس نمطاً جديداً من التعليم يذهب إلى أقصى مراحل التأهيل العلمي المعاصر..