نجد حالة جغرافيا خاصة، ومتفردة، ومتميزة. قاسية في أوجاعها، وحادة في تعاملاتها حتى تمنح الإنسان صلابة، وقوة، بحيث يكون مؤهلاً لفعل المواجهات، عصياً على الانكسارات والهزائم والإحباطات، محصناً ضد كل أشكال التلوث ، والتنازلات، والاقتتالات الرخيصة والهامشية. ونجد - أيضاً - سخية، ورقيقة، ومهادنة بكبرياء، وحنونة بحيث تمنح إنسانها فضاء من الدهشة، وتعطيه فضيلة التفكير، والانعتاق من الزيف، والخداع، والتلون، من خلال إيحاءات تاريخ الصحراء، وثقافة الصحراء، والمخزون الهائل من الإرث النضالي، والفكري، والفروسي، ومجد الكلمة « وفي البدء كانت الكلمة » فقد تفنى وتنهار أهرامات الجيزة، ويسقط برج إيفل، وأعمدة بعلبك. لكن تبقى الكلمة التي سافرت من وادي النساء « ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي» وما أنتجته نجد من شعر، وفصاحة، ومواقف، ومثل تبقى خالدة لا تطالها عوامل الزمن. لصحراء نجد تفرد في صياغة الإنسان كوعي، وفكر، وثقافة، وسلوك. ولعشيات نجد سحر خاص في فعل النشوة، وصفاء الفكر، والبوح الواعي، واستحضار الدهشة من خلال الشعر، والنقاش، والتجارب، والأحلام. كنا مجموعة صاغتنا نجد، وتفاعلنا مع إيحاءاتها. كان فواز عيد، وأيوب طه ، وقحطان هلسا ، وعبدالله نور، وسعد الحميدين، وسالم نحاس، ومحمد الشعلان، وعبدالله باخشوين، وعدد من الانقياء المبدعين الخلاقين. تحتوينا نجد كحنان أسطوري، وفرح خرافي. فرقتنا الدروب. سارت بنا الحياة إلى غير ما رجعة. انفض السامر، وماتت بعض الأحلام. رحل من رحل. وبقي من بقي يصارع أيامه، ويتكئ على رصيد من الحب، والنقاء، والوفاء لنجد، وعشيات نجد. قبل أيام كتبت موضوعاً قرأه قحطان هلسا، المبدع، والبدوي الجميل. كان آخر عهدي بقحطان قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة فوصلتني منه هذه الرسالة: «سلاماً أيها السادر في القدم... شوقي إليك لا يحد.. لكأنما بزغت في الذاكرة كنخلة من عهدِ عاد.. أو كزيتونة آشورية تمتص رحيق هذا التراب فتعطي دون حد، ودون أخذ، ودون كلل أسأل عنك كل القوافل التي أخبرتني أنك في بيروت تلك التي سُبيت مراراً واغتصبت كما سبيت معشوقاتنا جميعاً. بحثت عنك.. فأين ألقاك في زحمة هذا التكدس والفوضى؟ أشتاق أن ألقاك قبل الرحيل لأشم فيك نجداً مدينتنا التي أحببنا فيها عبق تاريخنا ونبض عروق أجدادنا... حتى صارت صحراؤها حلماً لكل من هاجر وغادر عبر كل الدهور، أي وطن هذا الذي لا زال يسكن الفؤاد من أول موجة هجرة حتى قيام الساعة...؟؟ إن كنت تسأل عن الأصدقاء؟ رحلوا.. ويا كثر من رحل... فواز (عيد) مات واقفاً.. وسالم (نحاس) على كرسي مدولب.. وأنا ما عاد القلب يسعفني، لا دهشة ولا جنون، سوى الوجد والشجن. أحضنك شوقاً... وقبلاتي لتركي (السديري) ولسعد (الحميدين) ولك ولجميع الأحبة ..ولعلني ألقاك » نجد، كم أنت معشوقة، كم أنت قدَر.