** لن يزاحمني الآخرون في الكتابة عنك يا أبا غنوة، مع أن محبيك من الكثرة بحيث لا نستطيع أن نجاريك في ذلك الميدان الذي ركضت فيه بجدارة على مدى سنين عمرك المديد المبارك -بإذن الله- وأعني به ميدان المحبة والإخاء الصادقين. ** فأنت تتحدث عن مكة، وكأنك عشت في حواريها.. تتذكر بحميمية مقهى المبدعين في “مسفلتها”، والذي يحمل اسمَ واحدٍ من رجالاتها المعروفين: وهو العم صالح عبدالحي. لقد كانت أسماء كبيرة من أمثال: شحاتة، والقنديل، والسرحان، وعزيز ضياء، وسواهم يرتادون ذلك المكان. ومن هناك من سماء مكّة أنشدوا الروائع، وصاغوا الكلم، وكنت في كل مرة نلتقي تذكرني برجال هم مثال للشهامة والنُّبل، ونظافة السلوك من أمثال: عبدالله بصنوي، واليا بارجب، وعبدالرحمن أبو راشد. ** كنت تحدّثني عن “الفلق” -لم يبقَ يا صديقي شامية، أو نقا، أو شِعب، أو فلق- وأتذكر اليوم حيث كنا نلتقي، ومعنا الإنسان النبيل السيد عدنان اليافي، كنت أسالك عن الشاب الذي كنت تمر كل صباح، وهو جالس على الأرض في طلعة الفلق يلعب (الداما) بنهم وشغف، وكأنه قد ألقى بهموم الدنيا ومشاغلها جميعًا خلف ظهره، واستدار لهذه اللعبة التي اشتهر بلعبها الكبار والصغار -آنذاك- وكأنك قد استخففت به، ثم كان يوم في حارة “برة” في جدة، ورأيته يكسو نفسه “بالعصا” بحرفنة، ويتنقل في رشاقة بعد أن سدّت عليه منافذ الحارة، ولكنه أعطى وجهه للقوم، ولم يُدِرْ لهم ظهره حتى نفذ في سلام، أتذكّر كلماتك أيُّها السائل، وكلماتك التي تقول: لو عاد “شكوري” وهذا اسمه للحارة مرة ثانية، وهو الغريب عنها لاحتضنه “القوم” بعد أن أدهشتهم براعته، ثم قادتك قدماك -يومًا- لطلعة الفلق لم تمنعك أستاذيتك ومنزلتك الاجتماعية، لتربت على كتف ذلك الشاب، فالتفت إليك، وكأنه يراك لأول مرة فخاطبته قائلاً: سامحني فلم أكن أعرفك من قبل، وكأنني بك يا أبا غنوة وقد قطعت الطريق بين الفلق والنقا، حيث تسكن تسأل نفسك: هل وعى ذلك الشاب سبب تحوّل نظرتك له، وقليل من أندادك أيُّها العزيز مَن نال مثل ما نلت من محبة أرباب الكلمة، وذوي الجاه والمنزلة، والبسطاء من الناس، وكنت في مجلسك تجمع بين هؤلاء جميعًا وكأنك تصهرهم بتلك الكيمياء التي حذقتها من رجال جالستهم أو خالطتهم في: اليمن، والمظلوم، والشام، والبحر، وسواها من حواري المدينة التي تحتضن الغرباء، وتشعرهم بأنهم أبناؤها، وكأنهم وُلدوا على ثراها، وتنفسوا هواءها، واغتسلوا في بحيرة “أربعينها”، وأنك أيُّها العزيز تحدّثني عن طيبة الطيبة، حيث النور والضياء، حيث القبة الخضراء، والروضة والمقام، تحدّثني عن مقهى “الطيرة”، عن ساحة باب المجيدي، عن شباب الزيارة -آنذاك- بين بابي الرحمة والسلام، عن حَمَلة الدوارق بين حارة الأغوات وباب جبريل، عن الماء المعطّر برائحة الكادي، والورد يسكبه الساقي بمهارة، ثم يمد لك الكأس لترتوي من ماء لم يرتوِ منه المحبون -بعد- فأشواقهم قد ارتقت بهم إلى عالم الملكوت، حيث الحب والطهر والنقاء، وكأنني بك أيُّها الحبيب واحد من أولئك العشاق الذين قطعوا الفيافي راكضين بين بادية نجد والحجاز، وقد أمضّهم الشوق للقاء المحبوب، فذهبوا يرفعون أصواتهم بذلك النشيد الفطري، وإنني لأقرأك في “مقام الحجاز” تسترجع تاريخ المدينة التي أحببت فتقول: “وانتظم الجميع في الزومال”.. سيدي بنى بيته ما علاه ليته يا ليته علاه ** وفي أسطورة البرزنجي توغل في ذلك التاريخ الذي صغته أدبًا رفيعًا، فتهتف مع الجمع الذي شهد دمه يتناثر على أديم جُدة، وبعيدًا عن تراب الأرض التي عاش فوقها: «سيدي مظلوم» «الله على الظالم» ** لعلّك وأنت في غربة نحسبها سنينًا وآمادًا، لم تنسَ معشوقتك -جدة- فكتبت عنها روايتك التي أزعم أن القليل من الأعمال الروائية التي كتبها جيل الأمس واليوم قد تمكّن من اللغة أداءً وتصويرًا وحبكةً مثل ما فعلت، فأنت تستهلها بهذه العبارات المدهشة، والأخّاذة فتقول عن محبوبتك: «من تزاوج الصحراء بالبحر وُلدت مدينة جدة، ومن فضة الموج جدل أهلها ضفائر حكاياتهم البيضاء، ومن رحابة الصحراء نسجوا خيام قلوبهم، فاتّسعت لتقلبات الزمن»، ثم تشبهها بالمرأة الفاتنة فتقول: «فهذه المدينة الأنثى تعوّدت إذا ما انطفأ النهار، وتثاءبت النوارس على صواري المراكب الراسية أن تدوزت» أوتار قلبها على مقام العشق، وتستوي على الشاطئ جنيّة حسناء تغازل البحارة والغرباء، وعابري السبيل، وتنثر ضفائرها فنارًا فترحل صوبها أشواق المواويل، وأحلام النواخذة». ** يابن البحر كم اشتاقت الشواطئ إليك، ويا سيد الجلساء والندماء كم اشتاق إليك مَن عوّدتهم صادق كلماتك، ونقاء سريرتك، وبذل نفسك التي طُبعت على النُّبل والوفاء في أوقات يعزّ فيها ذوو الشهامة والمروءة من أمثالك أنت، وشقيق الجميع النبيل عبدالمحسن حليت، والطبيب الإنسان فؤاد عزب. ** يا أبا غنوة في كل مرة يرن جرس الهاتف، حيث أعيش أقسى الأيام بعيدًا عن مَن ألفتُ وأحببتُ وعاشرتُ، أتخيّل أنك على الطرف الآخر تقول في وداعة عرفتها عنك ردحًا من الزمن: «الليلة نلتقي في Habitat»، وفي مرة أخرى تهتف قائلاً: دعنا نزر جماعة المعلم رجب في حارة برة، حيث تداعبهم بالحديث بعيدًا عن الشكليات والرسميات، لقد ألِفوك كما ألِفك أرباب القلم، وأحبوك كما أحبك القوم في كل مربع من مرابع هذا الوطن، يستوي في هذا غنيّهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، مثقفهم وأميّهم. ** عزيزي «محمد»: لقد أمسكت بالريشة، وعزفت على الطَّرْس من مقام الحجاز، وهو مقام صعب، أمّا مَن تمرّسوا على أدائه من أمثالك فإنهم يبحرون في منعطفات الرصد والنهاوند، ثم يعودون إليه بأمان، وذلك ضرب من ضروب الفن الذي اختفى من حياتنا، بعد أن امتلأت الساحة بكل ما هو نشاز وغريب على الأسماع والأذواق، ويبقى في «مقام الحجاز» من الشخصيات التي ربطت في إحكام بين شخصياتها مكانًا وزمانًا من مثل: حسين الكردي، والبرزنجي المظلوم، وابن دحمان، وسلمي، وميمون.. يبقى من هذا وذاك ما لم تسعني الأقدار والظروف على تفصيله، ولقد أجدت أيُّها المبدع الرشيق في روايتك المتناهية في إنسانيتها، حيث تمزج التاريخ بالأدب، والواقع بالمتخيّل، وشعر الغزل الرقيق بالزومال الشعبي، الذي طالما استمتعنا -سوية- بالإصغاء إليه في حلقة المفاليح. ** نعم لقد أجدت «يا سيد المجلس» في تقليب الحطب تحت الإناء، فنضج ما سعيت إلى تصويره بالكلمة التي أجدتها صحافيًّا، ومؤرّخًا، وأديبًا، وروائيًّا، وقبل ذلك كله إنسانًا تفديك مهج ونفوس المحبين.