كنت دائما أقول إن المدن السعودية هي من أقل المدن في تكاليف المعيشة على مستوى العالم، ولعل التقرير الأخير لشركة (ميرسر العالمية للموارد البشرية)، التي أكدت فيه أن المدينة السعودية تعد هي الأرخص بالنسبة إلى الوافدين مقارنة بباقي مدن الخليج العربي، يؤكد ذلك، رغم أن التقرير يشير إلى أن مدينتي الرياضوجدة أصبحتا من أغلى مدن العالم (18 و20)، رغم أنهما أرخص من باقي المدن العربية باستثناء مدينة تونس. على أن اللافت للنظر هو الشكوى الدائمة من غلاء المعيشة من قبل كثير من المواطنين في هذه المدن، (ليس فقط في الرياضوجدة، بل أكاد أجزم أن هذه الشكوى في كل مكان)، وهو أمر يثير كثيراً من التساؤلات، فكيف تكون مدننا من أرخص المدن؟ (حتى أني شاهدت بأم عيني ولعدة مرات كثيراً من المواطنين الخليجيين يتبضعون موادهم الأساسية من أسواق المملكة)، وكيف أن المواطنين يشتكون الغلاء باستمرار. فكرت في الأمر كثيرا، ورأيت أن هناك رابطا ثقافيا (ولا أريد هنا من القارئ أن يتهمني «بتثقيف» كل الظواهر لكنها الحقيقة كما أراها) فقد رأيت أن أسلوب الحياة له دور كبير في الشعور بغلاء المعيشة، فمع أنه قيل قديما إن «التدبير نصف المعيشة»، وهناك أقوال مأثورة أخرى تحث على اختيار الزوجة المدبرة، إلا أن كل هذا لم يصنع الأسرة السعودية المدبرة، بل «المبذرة». مدننا رخيصة لكنها تظل مكلفة بالنسبة لثقافة تحث على الانفاق دون تدبر ودون تخطيط، ويظهر أن أسلوب الحياة السعودية مكلفة جدا فحتى لو أن المدينة غير مكلفة معيشيا، إلا أن حجم الانفاق الاسري يجعل من رخص المدينة غير مجد بما فيه الكفاية. ومع ذلك هناك أسباب أخرى لابد أن نشير إليها تتركز في ظاهر الفقر «المديني» الذي تعاني منه كثير من الأسر المهاجرة من الأرياف التي لا تملك قسطا من التعليم والمهارات، التي تؤهل أفرادها للحصول على العمل المناسب. هذه الأسر هي التي تعاني وبشدة في المدينة، حتى لو كانت الحياة فيها مقبولة ورخيصة، وبالتالي فإن المعاناة سوف تستمر طالما أن هذا الانجذاب للمدن الكبيرة مستمر، ولعل هذا يفتح ملف التنمية الشاملة التي يجب أن تركز في المناطق الأقل نموا، وتحويلها إلى مناطق جاذبة، أو على الاقل محتفظة بسكانها لا مصدرة لهم كما هو الحال الآن، فهجرة السكان تضغط على المدن الكبيرة، وتقلل من وظائفها، ولا تتيح أي فرصة لنمو المدن الصغيرة. وإذا ما أردنا أن نحافظ على معدل مقبول لتكاليف المعيشة، يجب أن نبدأ من الآن في التركيز في تنمية المناطق البعيدة والفقيرة، ففي هذا حماية للمدن الكبيرة أولا، ونشر التنمية على كافة أرجاء الوطن. برامج معالجة ظاهرة الفقر في المملكة لم تنجح كثيرا؛ لأنها كانت برامج إعلامية، رغم النوايا الطيبة الكبيرة، خصوصا من خادم الحرمين حفظه الله الذي سارع بتأسيس مؤسسة عملاقة للإسكان التنموي، وصندوق لمعالجة الفقر، لكن هذه البرامج بحاجة إلى قاعدة مجتمعية، وتطوير برامج تنموية قريبة ومرتبطة بالناس، وهو الأمر الذي لم يحدث أبدا، مشاريع الإسكان الخيري كثيرة في كل مناطق المملكة، تؤكد النوايا الخيرة، لكنها لن تكون كافية؛ لأن الأمر مرتبط بتحسين الدخل لا بمجرد الإسكان وبالتالي نحن بحاجة إلى نشر ثقافة «التدبير» والبحث عن مجالات للتنمية الشاملة تغطي كل مناطق المملكة خصوصا الأقل تنمية منها. أثار رخص المعيشة في المدن السعودية حفيظتي؛ لأن هذه المدن تكلف ميزانية الدولة كثيرا، فأسلوب إدارتها وصيانتها مكلفة جدا، ولا أعلم لماذا لا تكون هذه المدن غير مكلفة بالنسبة إلى ميزانية الدولة. نقوم بتحسين المدينة وتجميلها بشكل مستمر لا ينتهي، وحسب أمزجة من يديرها، وطالما أن الميزانيات مفتوحة لتحسين غير الضروري، وتجميل «المؤقت» غير المهم فلماذا لا يبتكر المسؤولون عن المدينة مشاريع (ما أنزل الله بها من سلطان)؛ لإنفاق الميزانيات فيما لا طائل منه، رغم أن مشاكل المدينة نفسها لم تتغير ولن تتغير. بالتأكيد أنا سعيد لأن المدينة السعودية أرخص من باقي المدن العربية، لكني أتمناها الأجمل (في بساطة ومن دون تبذير) والأكثر انفتاحا على الحياة، أتمناها مدينة تحتضن من يسكنها، وترحب بزوارها من دون أن تكلف اقتصادنا كثيرا. شخصيا لا أعلم كم أنفقنا على بناء مدننا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لكني على يقين أنها ثروات ضخمة، ولا أبالغ إذا قلت إن أغلب دخلنا أنفقناه على هذه المدن، ولا أعلم كيف يمكن أن نسيرها في المستقبل بعد أن تصبح ثقيلة وخارج إمكاناتنا. الدولة تنفق بسخاء، والنتائج فقيرة جدا، وهذا ما يجعلني أقول إن مشكلتنا دائما في البشر، في الناس وفي منظومة الاخلاق التي بدأت تتآكل مع هذا التكالب على الدنيا، وهيمنة ثقافة رأس المال على عقول الناس، وتراجع قيم المواطنة إلى الحد الأدنى، حتى إن الفرد أصبح أهم من الوطن. قال لي أحدهم، ونحن نستمع إلى تقرير (ميرسر): يبدو أن هناك إغفالا لجودة الحياة عندما تحدث التقرير عن رخص المعيشة في المدينة السعودية، وكان يعني الخدمات المتدهورة التي تعاني منها المدينة السعودية، وضعف الصيانة والاهمال المتعمد من قبل إدارات المدن، لكل ما يمس «جودة الحياة» المدينية، قلت له يا أخي ميزانيات المدن ضخمة، وتكفي لتحويل المدينة إلى جنة، لو كان هناك أخلاص وتقوى. قال لي أنت تطلب ما لا يمكن تحقيقه (ويقصد الاخلاص والتقوى)، إلا بنظام صارم للمحاسبة، ليس فيه رافة، أو واسطة، فهل سمعت يوما أنه تم محاسبة مقصر، أو مختلس، أو متلاعب بميزانية المدن؟ وهل سمعت أنه تم تعويض الدولة عن مشروع فاشل تسبب فيه غير المبالين بمقدرات الوطن؟ شعرت ببعض الاكتئاب وصمت ولم أجبه أبدا. فما نحتاج إليه أكثر من النوايا الحسنة، نحن بحاجة إلى المحاسبة والضرب بيد من حديد على يد كل متلاعب بمستقبلنا. بهذا فقط يمكن أن نحافظ على مكتسباتنا.