في الشهر الماضي عقد عمدة نيويورك مؤتمراً طارئاً لإبلاغ سكان المدينة ان عدد الجرذان وصل إلى 70 مليون جرذ - وهو ما يساوي تسعة جرذان لكل مواطن!! وهذه المعلومة لا تعد جديدة تماماً لأهالي نيويورك كونهم يعلمون بوجود تماسيح عملاقة تعيش في مجاري مدينتهم.. فمنذ عقد السبعينيات والبلاغات تتوالى - من عمال الصيانة بالذات - عن تماسيح عملاقة لاتظهر منها إلا حراشيفها العليا - وإن اخضعنا هذه المعلومة للمنطق نجد انهامعقولة لسببين: الأول: ان المجاري في هذه المدينة العملاقة (عملاقة) بحيث تشكل انهاراً جوفية قد تتقاطع على أربع مستويات.. والثاني: ان صغار التماسيح يمكن ان تتسرب باحجام ضئيلة جداِ ثم تنمو بلا توقف طالما وجدت مرتعاً خصباً كمجاري مدينة مترفة!! أما على الجانب الآخر من الاطلسي فقد منعت بلدية لندن بيع الحبوب في ساحة الطرف الاغر للحد من تكاثر الحمام الذي اصبح يعتمد في طعامه على السياح.. ولندن بهذا الاجراء تلحق بمدن اوروبية عديدة ادركت ان سهولة الحصول على الغذاء في المدن جعل الحمام داخلها يفوق طيور البراري خارجها (وهو ما يذكرني شخصياً بأسراب «الحمام الحرمي» التي كانت تملأ ساحات الحرم النبوي الشريف قبل ان نسبق بلديات العالم في القضاء عليها!!). وهذه النماذج تثبت ان حيوانات كثيرة بدأت تغير عاداتها البرية القديمة للتأقلم مع الحياة والمدن العصرية الحديثة.. فأجناس وفصائل كثيرة تموت هذه الأيام ان انتشلت من المدن، وانواع كثيرة من القوارض غيرت سلوكياتها لتتلاءم مع الحياة الحديثة، وطيور عديدة تخلت عن هجراتها الموسمية مفضلة عليها الاستقرار في المدن لوفرة الطعام وفرص الاستجمام!! ولو فكرنا بأخذ جولة مختصرة حول العالم للاحظنا تصرفات كثيرة تنبئ بهذه التغير: ففي جزر المحيط الهادئ مثلاً اصبحت سرطانات البحر «ترابط» عند عتبات البيوت بدلاً من البحث عن طعامها في البحر.. وفي مصر لاتكاد شجرة تسلم من الاستيطان المتزايد لغربان الصحراء ، في حين اصبحت مدينة اسوان تعيش على بحيرة من النمل الأبيض. وفي المنطقة الجنوبية من المملكة اصبحنا نسمع كثيراً عن هجمات القردة على المزارع والقرى باعتبارها مراكز سهلة ومباشرة للحصول على الغذاء.. وهجمات قردة البابون تذكرنا بغزوات الذئاب التي تتعرض لها مدن عالمية كثيرة طلباًَ للمأوى والغذاء السهل (فالذئاب بالذات قادرة على قطع أكثر من 25 كيلومتراً في الليلة الواحدة الأمر الذي يفسر ظهورها المفاجئ في مناطق لم تعرفها من قبل).. وفي لوس انجلوس اصبحت هجمات (نمر الجبال) أمراً معتاداً وهو ما يثير على الدوام حرباً إعلامية بين مؤيدي اصطياده وجمعيات المحافظة على الحياة الفطرية!! وكل هذا يهون أمام جحافل الجرذان والفئران التي تشكل حالياً المعضلة الأولى للمدن الحديثة حيث تتناسل بالملايين، وتتحرك بالملايين، وتسبب خسائر بالملايين - وحتى في نيويورك لاتعد التماسيح شيئاً يذكر أمام معضلة الجرذان!! ومايبدو لي أن المدن الكبرى لم تعد فقط نقاط جذب للفقراء والعاطلين وسكان الأرياف، بل وللحيوانات البرية التي دمر الانسان بيئتها الطبيعية واكتشفت في المدن مرتعاً غنياً بالطعام والعيش المريح.. ومن يدري ماذا يحدث مستقبلاً، حيث قد تنتهي الحال إلى وضع معكوس يخرج فيه الانسان للبراري وتستوطن فيه الحيوانات المدن!! قال صلى الله عليه وسلم «تتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العواف - يريد عوافي السباع والطير».