«يشكو كثير من الناس من انعدام الحوار بينهم وبين الجيلين الذي يسبقهم والذي يليهم والأسباب كثيرة أفاض فيها علماء التربية وعلم النفس والاجتماع». اتسعت الفوارق بين الأجيال في العقود الأخيرة فبعد أن كانت الاختلافات بين كل جيل وسابقه ولاحقه بسيطة تسارعت وتيرة الحياة بشكل كبير، فقبل ثلاثة عقود ومع بداية الطفرة الأولى كان الناس يتناقلون نادرة الذي يشتري الهايلوكس أو الددسن ويقول لصاحب معرض السيارات "وجِّهْها" باتجاه منزله لأنه لا يعرف القيادة للخلف، وكان الذي يتندر بهذه القصص هم شباب ذلك الزمان الذين يرون في الجيل الذي سبقهم أمية في التعامل مع التقنية الحديثة التي تدفقت على هذه البلاد في تلك الفترة، هذا الجيل الذي يتندر بالجيل الذي سبقه أصبح الجيل التالي له يتندر بأنه يستخدم المنتجات الإلكترونية على طريقة "وجّهها"، فهو لايعرف من أجهزة الجوال إلا استقبال وإرسال المكالمات والرسائل النصية، ولا يعرف من الإنترنت إلا إرسال البريد الإلكتروني واستقباله وتصفح بعض المواقع من المفضلة، أما استخدام الوسائط الإعلامية المتعددة فهو طموح كبير، لكن الوصول إلى مرحلة البلاك بيري والآي فون واستخدام المدونات والشبكات الاجتماعية مثل الفيس بوك وتويتر وماي سبيس وغيرها فهو عندهم من باب العلم الذي لاينفع ولا يضر الجهل به، في حين أن طلاب المراحل مادون الجامعية يعدون ذلك من البديهيات والتي تتم بشكل عفوي ويتندرون بأنهم يفتحون إيميلات آبائهم أورؤسائهم في العمل ويطبعونها لهم لقراءتها. التسارع في زماننا المعاصر ليس جديداً وسبق أن صوره المفكر الأمريكي جيمس روبنسون في القرن الماضي في شكل مبسط صاغه توفيق الحكيم حين افترض روبنسون أن حياة الإنسانية التي تقدر بخمسمائة ألف عام تقريباً تبلغ من باب التبسيط وتقريب المسائل خمسين عاماً، ووجد أن 49 سنة من هذه الخمسين قضتها البشرية في حياة الصيد الأولى، أما السنة الأخيرة فمضت منها ستة شهور قبل أن تخترع الكتابة، ثم ثلاثة شهور أخرى للوصول بالأدب والفن والفلسفة إلى تلك القمم التي بلغناها، ولم يتطلب ظهور الطباعة غير ليلة واحدة وآلة البخار غير أسبوع ويومان أو ثلاثة لتخوض البواخر عرض البحار والقطارات لتعبر القارات، ولم يبق غير يوم واحد اكتشفت في ليلته البارحة أعاجيب الكهرباء، وأخيراً لم تبق غير ساعات معدودات كانت كافية لحذق الملاحة في الجو وتحت الماء واستخدام أحدث المخترعات، ولا شك أن الثورة التكنولوجية وثورة الاتصالات والإنفوميديا الأخيرة بعد زمان روبنسون وتوفيق الحكيم تعد بكل تطورها وإنجازاتها مجرد دقائق معدودة في مسيرة البشرية. ويشكو كثير من الناس من انعدام الحوار بينهم وبين الجيلين الذي يسبقهم والذي يليهم والأسباب كثيرة أفاض فيها علماء التربية وعلم النفس والاجتماع، ولم تقم الجهات المعنية بعمل برامج وطنية لتجسير الفجوة عن طريق مد الجسور بين الأجيال ربما بسبب انشغالها بمشكلة الحوار بين أفراد الجيل الواحد سوى بعض البرامج الآنية أو المحصورة في نطاق معين، غير أن هناك أساليب ونماذج ذات طابع مختلف قديمة وجديدة فردية قام بها أدباء ومؤلفون لاختراق حاجز الزمن والوصول إلى الجيل اللاحق من أشهرهم أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي المتوفى سنة 604 ه الذي ألف كتاباً لابنه الصغير عبد الرحيم ليقرأه بعد موته وكان قد أراد وضعه مختصراً لكن اتسع الكتاب حتى طبع في مجلدين كبيرين سماه "ألف با" وقال فيه: وجعلت بما أؤلف فيه وأبني لعبد الرحيم ابني ليقرأه بعد موتي وينظر إليَّ منه بعد فوتي، وهذا العمل يختلف عن عمل سابق لأبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505ه الذي كتب إليه أحد طلبته مسائل قصد بها أن يكتب الشيخ له حاجته في أوراق تكون معه بقية عمره، وسمى هذا الكتاب "أيها الولد". وفي زمننا هذا قام الدكتور عبدالعزيز الخويطر بكتابة مقالات جرى توسيعها في كتاب من عدة مجلدات بناء على اقتراح من الدكتور غازي القصيبي وعنوانه "أي بني" ذكر فيه انه أراد أن يفتح لابنه نافذة يطل منها على عالم غير عالمه بعد أن جاء زمان انفصل الجيل عن الجيل أو كاد ، وهو من خلال ابنه يخاطب هذا الجيل الراكض اللاهث ليقف ويلتفت خلفه ويرى ماكان عليه أبوه، مع أن الدكتور الخويطر يرى أن الاختلاف أحيانا وهمي في ذهن الجيل الماضي، فالوالد يقول للابن إننا لم نكن نفعل ذلك في زماننا وهم كانوا يفعلونه ولكن الوالد نسي أو اختلفت عنده أسس المقارنة أو لا يريد أن يقر بذلك. كما قام جاكسون براون وهو أمريكي من ولاية تنيسي بكتابة نصائح قدمها لابنه عندما أراد دخول الجامعة، رأى انه قد يحتاجها من وجهة نظره كأب ولما وجد لها صدى كبيرا من أهله وأصدقائه قرر طبعها في كتاب سماه life`s little instruction book حقق به قائمة الأفضل مبيعاً لمدة 158 أسبوعاً في قائمة نيويورك تايمز، وطبع طبعات كثيرة آخرها تقويم عام 2009، وترجم الكتاب إلى 35 لغة حول العالم مع أن إحدى نصائحه كانت: لا تصدق كل شيء تقرؤه. قام البلوي بنقل ثقافة عصره إلى ابنه وزود أبو حامد الغزالي تلميذه بأجوبة لمسائل تنفعه في حياته ، وهدف الخويطر إلى أن يعقد جيل ابنه مقارنات بين عالمه وعالم سبق عالمه في الزمن في كثير من مظاهره ثم يعود بنظره إلى حاضره فيتبصر ماهو فيه ويقارن ليرى الفرق الكبير، وكتب براون نصائح لابنه تنفعه في دراسته وحياته، وهذه جميعاً تمثل نموذجاً لمسار واحد من الماضي إلى الحاضر، أو من جيل الآباء إلى جيل الأبناء. وهي شكاية أزلية للأجيال الجديدة في الحياة والآداب والفنون وشتى مجالات العمل بأن الجيل السابق لا يستمع للجيل الجديد ولا يتيح أي حوار أفقي للأجيال وإنما هو حوار رأسي من الأقوى للأضعف ومن الماضي للحاضر، وأتصور أننا لو سمعنا تصور الجيل الجديد عن جيلنا بعيداً عن التحفظات والهيبة ومقتضيات الاحترام لسمعنا عجباً مما يتداوله أبناء الجيل الجديد مع بعضهم، أما الأعجب فهو تخيلنا كيف ينظر الجيل التالي لجيل أبنائنا لهم وكيف يكون وضع ذلك الجيل في ظل التسارع الكبير للحياة والانفجار المعرفي والتقني، لن أدخل في مغامرة التخيل كثيراً حتى لا أصاب بالدوار.