صدر بيت من قصيدة للشاعر بن عاطف الذي توفي منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً تقريباً، قصيدة طويلة تناقلتها الأجيال وحفظها كثير من الرواة، وهي تعبر عن معاناة شاعر تعرض لصروف الزمن الذي كان مزيجاً من المتناقضات من اضطراب في الأمن وعدم استقرار وسوء في الأحوال السياسية والثقافية والاقتصادية، زمن يسيطر عليه تسلط الأقوياء وأصحاب المكانة في القبيلة التي كانت هي الموئل الذي يلوذ به رجالها، وكانت الأسرة تحكم قبضتها على أفرادها استجابة لنظام القبيلة الذي يخضع لضوابط وأنظمة وقوانين وضعية مستقاة من الدين ومن الأعراف والتقاليد لتنظيم العلاقة داخل القبيلة وفيما بينها وبين القبائل الأخرى. وهو نظام صارم وملزم، يتحرى فيه عقلاء القبائل تحقيق نوع من المصالح العامة، وإشاعة مساحة من الأمن المهدر. وشاعرنا تغرب مرتين، الأولى لمقتل عمه والثانية لمقتل والده. وأسباب التغرب حينها البعد عن مكان القتل خشية تدخل المصلحين والعقلاء لإنهاء القضية صلحاً، فالمقتول لايسلم من مسؤولية قتله، كما هو القاتل لا ينفرد بأسباب القتل، لذا يغترب بعض أولياء القتيل لئلا يلزموا بالتريث لحل المشكلة صلحاً، فمتى ما سمع الولي النداء بتدخل أحد المصلحين لحل القضية فإنه يلتزم بالاستسلام لهذا الطلب. وقد فر الشاعر إلى ديار بعيدة ليعود بعد حين ويثأر لعمه أو لأبيه أما الاغتراب الثالث فكان للتأمل والتفكير في حل مشكلته مع أخوته الذين تنكروا له بعد مقتل أبيهم وحرموه من حقه في الميراث لأنه ابن جارية، فكون أبيه من شيوخ القبيلة وكون الرق شائعاً في ذلك الزمان بل كان تجارة رائجة لاستخدام الرقيق في الخدمة المنزلية والرعي والزراعة وفي الانتقام من الخصوم والدفاع عن ممتلكات سادتهم، فقد ولد الشاعر من أم كانت جارية عند والده، وكان من فضائل الاسلام أنه يحرر الأم من الرق وينسب الأبن لأصله ويمنحه كل حقوق الأبوة، ولكن تفرق الأخوة بين عدد من الأمهات يثير أحيانا خلافات بين الأخوة، لاسيما وكان زمن الشاعر يمنح كبار الأسرة سلطة مطلقة على صغارها. ولما كان شاعرنا فارساً راجح العقل بعيد النظر فإنه كان حكيما في معالجة قضيته غير منساق لمؤثرات تحرض على الانتقام واستعادة الحق بالقوة. ويمكن استعراض منهجه في تشكيل قضيته وعرضها، وكلنا يدرك الألم الذي يتعرض له الإنسان من منغصات حياته، فكيف يكون اذا كان الألم ناتجا عن ظلم ذوي القربى: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند وكيف يكون وقعه اذا كان واقعاً على نفس أبية لم تدخر وسعاً في أداء واجبها وتميز هذا الأداء من فارس يقابل صنيعه بالنكران. إن ما آلم الشاعر ليس حرمانه من الميراث المادي، فالمادة ظل زائل، ولكنها اعتبارات معنوية أجلها وصل النسب بأصله، والاعتراف بالدور الذي يلعبه الفرد في مجتمعه. لقد آلمه هذا المصير وشعر بالحرج من المواجهه المضادة. لذا انتهى به التفكير إلى انشاء هذه القصيدة التي نحن بصدد تقديمها، والتي يستهلها بتجسيد معاناته وإلحاح المعاناة لتفريغ ما خلفت من شحنات: يقول العناوي قول من حثه العنا من احوال منها مفرق الراس شايب أنا ما بنيت القيل من زايد الطرب ولا اقول قول الا بعزم العضايب لعله يشير في البيت الأول إلى نظرية بدء ظهور الشيب التي طرحها شاعر من قبل: وشبت مشيب العبد من نقرة القفا وشيب كرام الناس عند المفارق لعل شاعرنا يؤكد بذلك نسبه إن صحت هذه النظرية وهي نزعة عنصرية لم يعد لها مكان في زمننا كما يزعم الكتاب. ثم ينوه في البيت الثاني أنه لم يكن الدافع لانشاء القصيدة طرباً أو رفاهية شعرية، وإنما هو أمر جلل، ثم ينوه بأنه لم يكن راضيا عن غرض القصيدة وإنما كان مرغما على ما جاء بها من اعتزاز بالنفس أو تعريض بالآخرين. ثم يجسد معاناته في أبيات منها : وعيني حربها طرفها من نصيبها وهلت دموعاً كنّها الدم سارب وعلى نومة المخلين جرّيت ونّة ونّة كسير، اللى زنوده عطايب وانا امسيت مثل الغصن في عالي الشفا لياما تصافقته صروف الهبايب من احوال ملعبة الزماني بلعبها كما جرح عجزوا فيه كل الطبايب لو طابت اطرافه تلعثم على الخنا وظلّ كنين الجرح في الجوف ذايب الى قوله: أنا كان اداوي علتي من بصيرتي ولا بي غبا عن مبريات الصوايب لكن بلا معنى فلا يكمل الدوا وطالع كما نجم زْحلينْ الرقايب إنه قادر على حل مشكلته، ولكن كما قال : «ولئن رميت يصيبني سهمى»، وهو حل لا يرتضيه أن يعمق جراحه بالانتقام من أهله واستعادة حقه، وبهذا لن يشعر براحه تكمل معاني الانتصار. ثم يعرج على غربته وتعريض المحرضين وإغرائه بالانتقام، وهو سلوك استعماري: يلومني الأنذال، الله يلومهم يقولون منزاحك عن الدار هايب يخيلون مشحاهم وما في عقولهم ولو خيلوا برقاً بعيد السحايب أنا اخيل مجهولات ما يعلمونها يخيلونها صم القلوب اللبايب هذه الأبيات تعبر عن بعد نظره وحكمته وتحليله للمشكلة: وانا من صبر صبري وجالد مجالدي على الظل والقالة وحفر اللغايب أفرِّق هجوس القلب في كل وادي هذي منوّخها وهذي عزايب ولاما انهن اقفن ومدَّن نشورهن لفَنْ واردات وحاضبات المشارب أشول الزحم لاتكسر الحوض بالدحم عطاشا كواسر يلهفن الشرايب إنها المجالدة على مواجهة صروف الحياة القاسية التي عاشها الشاعر، فهو يجالد حتى أفكاره وهواجسه التي كلما صرف شيئا منها تواردت خواطر أخرى يشبهها بالوراد من الرعاء في فصل صيف حار يذودها الرعاة عن الماء انتظار دورها، وكيف لهم أن يمنعوها وهي تعاني من العطش. وقد يقلل آخرون من تصويره لمعاناته وتجسيده لمشكلته، ولكنه يفصح عنها في قوله: ويا مسلمين الله انا لي رفاقة شالوا لي البغضا على غير صايب إن جات زينة قالوا الزين فعلنا وان جات شينة قالوا انت السبايب وان جات عازتهم ولاني رفيقهم وان جات عازتنا تعاطوا شعايب يعتّوننا بالبوق وحنّا نعتّهم والكل منا يا القبيلين جانب يبدون عيب الناس ويتقون عيبهم ولا حي في الدنيا صري العوايب ثم يبرر غربته ونزوحه فيقول: تصبّرت في دار المهونة على الجفا وقللت منها يوم شفت العجايب كثرت مصايبهم وقلت نفوعهم وكثروا اهل النمّات بين القرايب لاصار عيب الدار منها في اهلها عيب الرفاقة من كبار المصايب وانا ان عشت لابدِّى براي ومشورة فكّاك عقد معيوجين الطلايب ولي بين حرف السين والفا ذخيرة لها شربة احلى من سليل الذوايب وهو يصرح في البيت الأخير بأنه يدخر آخر العلاج وهو الكي ولكن بتحكيم السيف: إذا لم يكن الإ الأسنة مركبا فما حيلة المضطر إلا ركوبها ويبدو أنه تخلص من شحنات الغضب بهذه الأبيات وعاد إليه هدوئه معولاً على أخيه أن يدرك المأساة الأسرية ويبادر إلى استيعابها وحلها فيقول: ويا موصلا شكواي اخوى ابن والدي ترى خاطري عندك ولو كنت غايب أراعيك ما اصبر عنك لو فرد ساعة وذكرك يفسّح لى جميع الكرايب عسى الله بعد الياس ما يقطع الرجا وعسى الرجا فيكم حباله قضايب وانا قبلكم ناوى بمنزاح ديرة مساهيجها تردي جياد النجايب إنه الخطاب الأخوي من القلب إلى القلب، يبعث الأمل ويشتت نزعات الغضب ويحيلها برداً وسلاماً، وما أظن أخاه بعد هذا الخطاب المؤثر يضيق صدره بتفعيل المعاني السامية للأخوة التي أكدها الشاعر لمن رفع إليه شكواه.. عقد عليه أملا أن يحول دون نزوح الشاعر الى بلاد بعيدة. وأخيراً يوجه الشاعر رسالة عامة إلى إنسان ذلك الزمن بل إلى الانسان في كل زمن حيث يقول: وانا اوصيك دارك لا تهنَّ بنومها إلاَّ يقعْ بمزعزعات الهبايب ومال كما عد نهيل لوارده يورِّد حبالك في جميع النوايب أو رَبْع مثل السيف في كف ناقله يميلون ميلاتك بخاطي وصايب وان كان لاهذي ولا ذي ولا الذي توسَّل على طلق الذراعين شايب قصيدة ابن عاطف من منطقة بدر بوادي الصفرء من القصائد التي تعلق بها الرواة وتطلعت إلى سماعها المجالس، ولعلها من أكثر القصائد شهرة. ولمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى كتاب: من مرويات ابن قابل للكاتب.