أحتاج إلى عشر سنوات كي استوعب التغيرات التي حدثت في العالم. أتذكر في الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي أن صديقا كان يتساءل كيف كان الناس يعيشون بلا جرائد وبلا تلفزيون . أتمنى أن ألتقي هذا الصديق وأسأله: كيف كان الناس في الثمانينيات يعيشون بلا فضائيات وبلا جوال وبلا انترنت. لا استطيع أن استغنى عن الجوال. اذا خرجت بدونه أشعر بالذعر. كأني خرجت عاريا. أول شيء اتلمسه في جيبي هو الجوال. لا استطيع أيضا أن أحصى الحلول التي قدمها والتغيرات التي أسهم بها. ما الذي أحدثه من تغيرات في حياتنا؟ حادثة وحيدة دفعتني لكي اتمعن في التغيرات على حياتي المهنية. كنت في السيارة أنتظر ابني يخرج من البقالة. وصلتني رسالة من صديق يعيش في لندن. يطلب مني قراءة مقال معين في جريدة محلية. بالجوال نفسه وفي نفس الوقت دخلت على موقع الجريدة الالكتروني. قرأت المقال ثم اتصلت به وناقشته في بعض جوانبه. قد يبدو هذا حادثا عرضيا يحدث للكثير لكن بالعودة إلى الثمانينيات سنرى أن ما جرى يدخل في خانة المستحيلات. أولا صاحبي قرأ الجريدة في لندن في نفس يوم صدورها والثاني بلغني في نفس لحظة القراءة.الثالث أنني استطعت قراءتها وأنا في السيارة ثم كلمته وناقشته فيه. لو قرأنا هذه الحادثة على كل المستويات. المستوى الشخصي العائلي والتجاري والسياسي سنجد أن البشرية اختصرت بالجوال أعمارا طويلة. بمعني آخر أصبح الإنسان يعيش أطول من عمره على مستوى الانجاز. اعتدنا أن ننظر للجوال على أنه جهاز للتحادث بين الناس. ليس لأنه كذلك ولكن لأنه بدأ كجهاز تلفون. إذا أضفنا إلى الجوال الانترنت وهذا ما رأيناه في الحادثة الصغيرة التي مثلت بها سنرى أن الإنسان دخل في تغير نوعي. ما يجري الآن هو مجرد تحضير له. أشعر بالخوف مما ينتظرنا خلال الثلاثين سنة القادمة. دول العالم الثالث أكثر الخاسرين كما جرت العادة. لا يعود خوفي إلى ضياع الهوية كما يردد الكثير ولكن إلى الجهل بهوية المعركة. التمترس خلف أخلاقيات مثالية خاسرة. ستكون حالنا كحال الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية. وضعوا أفضل خط دفاعي عسكري بينهم وبين ألمانيا عرف بخط ماجينو. خلال أسبوع أصبحت فرنسا تحت الاحتلال وخط ماجينو لم يمس. تركت ألمانيا خط ماجينو يتلهى به الضباط الفرنسيون ودخلت عبر بلجيكا. هذا ما سوف يحدث للمتاريس الثقافية التي نبنيها على الدوام. من لوازم المثقف هذه الأيام أن يقول إن الرقابة لا تجدي علينا التحصين الثقافي. هذا الكلام في نظري تطمينات لا قيمة لها.لا الرقابة سوف تنفع ولا التحصين الثقافي. السرعة التي يجري بها العالم نحو المجهول لا يقوى عليها أحد. الحصانة الوحيدة هي الاستعداد النفسي والسلوكي لمواجهة التغير الجذري. العالم في الماضي( إلى الثمانينيات من القرن الماضي) كان تحت قيادة الفلاسفة والمفكرين والفنانين أما عالم اليوم فقد صار رهينة في قبضة التجار والمهندسين.