تتمعن في وجهه بهدوء .. لا تغض النظر .. لأنه لا يشعر بك .. أو حتى يستشعر وجودك كنت دائماً من المناهضين لهذه النظرة الموجعة للآخر .. والتي تساهم في كشف دواخله أنت نفسك لا تحب أن يطلقها أحدهم في وجهك .. تشعر أنها نظرة لا تليق بإنسان يحترم خصوصية الآخر، ويقدّر حقه في أن يستمتع بحضوره في مكان ما دون مراقبة من أحدهم . إحداهن كانت تقرأ وجه شابه يبدو أنها قد شبّهت عليها، أو شعرت أنها تعرفها .. دققت النظر فيها بثقة مفرطة، وبإحساس أنها لا تتابعها، ثم غابت، بعد بدقائق وجدتها أمامها وبصلف، وبطريقة غير مؤدبة، ومحرجة لمن اعتاد على التعامل باحترام مع الآخر قالت لها: لماذا تدققين النظر بي ؟ هل تعرفينني من قبل ؟ ارتبكت لكنها تماسكت وقالت لها أبداً لقد كنت أشبّه عليك فقط . هذا الموقف الفائض بإحراجه لم يمنعها من الاستمتاع بمواصلة قراءة الوجوه لكن بطريقة غير ملفتة . هذه القراءة وإن أعطت انطباعاً سطحياً، إلا أنها مرتبطة أيضاً بالداخل، أو بالعطاء المعنوي نفسه وحتى بالمادي أحياناً . فبعض الوجوه وأنت تدقق بها تشعر أنك تسلك سلوكاً متعرجاً وطويلاً حتى تتمكن من قراءة الحروف الأولى من ملامحها . وجوه متبلدة .. كئيبة .. تجعلك في مهب الريح إن حاولت التعمق فيها .. إن ابتسمت وسعدت أنك بدأت تفك حروفها فوجئت أنها قد قلبت الزاوية وانعكست بملامح هوية أخرى، ليس بإمكانك أن تلتف عليها لتصل إلى فك شفرتها وجوه تجعلك تعانق الفراغ، وتصافح اللاشيء وأنت تكرس وقتك وجهدك لتفسير تفاصيل ملامحها . وجوه لا تخضع لمفردات التفتت وأزمنة فيضان الحياة نحو الآخر... وجوه لن تكون محظوظاً إن اخترتها أن تكون منفاك .. لأنك ستدفع ثمن هذا الاختيار قسرياً، ولأنك ستفشل في الإمساك بأي لحظة تمكنك من التسلل داخل هذا الشخص، وتفنيد أحاسيسه . هي وجوه اعتادت أن تكون دائماً خارج التغطية رغم أن البث متوفر ومتاح، لكن المشاهد لا يمكنه أن يفهم هذا الحضور، وهذا الظهور على الهواء . تحكي لي إحدى الصديقات أن زوجها كثير الانشغال والأسفار، ولا يتواجد معهم إلا في المناسبات وحتى في أيام الإجازات التي يفرح فيها الأبناء بوجوده، وباجتماعه معهم يكون خارج التغطية وخارج نطاق الخدمة، صامتاً، أو شارداً، أو غائباً، أو غير مفهوم . تتبدد كل لحظات السعادة الموهومة التي بناها الأبناء وهم يحلمون بوجوده معهم لأنه يكون موجوداً رسمياً , وغائباً فعلياً , ويتلاشى شعور الأسرة بإحساس التمتع بالسعادة المسلوبة من وجه الترحال . استمالة قراءة بعض الوجوه .. أو القبض عليها .. يجعل البعض عليها .. يجعل البعض يخاف منها .. أو يتجاهلها .. أو يهمّشها .. أو ينسحب عندما يعجز عن فك ملامحها ولذلك نجد أحدهم يقول أن فلان غامض جداً .. وتعجز أن تعرف ما لديه .. أو تفهم دواخله وكلما حاولت .. أن تصل إليه تصطدم بعقبات الحيرة .. والمسافات الطويلة من الفراغ . فلان ممل .. ومتبلد .. ويجعلك تحترق وأنت تجلس معه وليس بإمكانك فعل شيء أمام ذلك ، ولذلك لا تستغرب أن سمعت أحدهم يتبرأ بسهولة من أحد معارفه أو أصدقائه أو يبرر ما يفعله بحجة أنه متبلد، وغير موجود رغم وجوده، وأنه باستمرار خارج التغطية، أو خارج نطاق البث برغم أنه دائماً على الهواء . وأن قدر التعيس أن يعرف مثل هؤلاء، والأتعس إن كان لا يستطيع أن يتنصل منهم، أو يغادرهم متى أراد، وأن يجد المرء نفسه أمام اضطرار التعامل معهم والتعايش رغم عدم قدرتهم على العطاء وعجزهم عن التعبير، أو حتى الإحساس بمن حولهم . وأن يصل إلى مرحلة الكف عن طرح الأسئلة عليهم لأنه لن يجد الإجابات، ويكتفي منهم بالتعود على كارثة التبلد، والغياب عن الآخر .