تبدو جدة مساء كل ليلة رمضانية عاجزة عن الوصول بوجهها الحقيقي إلى الآخرين.. يعيش من كتبت عليه الظروف التحرك في شوارعها ليلاً مرارة اللحظة الحاضرة، وألم إهدار الوقت وسطوة الزمن المتبدد دون وجه حق.. زحام ، زحام في شوارع العروس.. التي يبدو أنها قد شاخت، ولم تعد تحتمل من فيها وغزا الضمور، ملامحها.. وهدّت المتغيرات حاضرها لتدفع به إلى مستقبل غامض يصر على تحويل الواقع إلى صورة كارثية.. تغيب جاذبية العروس بفعل تكاثر حفريات الشوارع.. وتذمر العابرين من انغلاق عشرات الشوارع بحثاً عن صناعة وجه جديد للعروس، وجه جديد قد يصنع الحلم الضائع. وقد يكثف معضلة التناقض بين الحلم وتفسيره، وأزمة البحث عن مفردات، وصياغة جديدة تكشف وجهه الحقيقي.. يزداد الزحام كل ليلة ربما لأن العروس قد ضاقت بمن فيها.. من ساكنيها، وعشاقها، وزوار نهاية كل أسبوع، بعد أن تحولت مباني المدينة إلى ثكنات من الشقق المفروشة التي تفتح الباب للهيمنة الأسبوعية. ربما لأن الهجرة تزداد إلى جدة كل عام، بل كل شهر، وهاجس البقاء داخل المدينة، والاستمتاع ببحرها الذي لم يعد هو، وملامح الكورنيش الذي يوشك أن يختفي، لا تزال تشكّل حلماً لدى الآخرين، لا تزال هي جدة أم الرخاء والشدة. يعيش الحالمون على حميمية العلاقة المحورية بينهم وبين هذه المدينة التي خلعت أحلامها، وتوارت في نسق جديد، اختياري، لا يخرج من نسق الأزمة التي ستظل تبحث عن حلول.. إن عصفت بك الظروف الاختيارية، القاسية في كثير من الأحيان واتجهت إلى بعض الشوارع الرئيسية التي تشكل شريان المدينة، وقلبها كطريق المدينة الطالع وشارع فلسطين، وشارع التحلية، ستشعر أنك أمام لحظات تتسارع وتيرتها ضيقاً وتذمراً، وتذوب بطئأً من طول الوقوف أمام الأرتال المتوقفة أمامك بإشارة حمراء وأحياناً خضراء، وأحياناً لاشيء، سيارات تجاهد من أجل الانسحاب من مواقعها لأمتار محدودة، يخنقها السير، والازدحام، وتداخل السيارات في بعضها البعض، تشعر أن اللحظة نفسها تحتاج إلى ترميم خاص، وتوقف أكثر خصوصية.. وان اللحظة في حاجة ماسة لمغادرتها فوراً. ومع هذا الإحساس الجميل تنتفض، وتتراكض دواخلك رغبة في المغادرة السريعة ولكن كيف؟ ومن أين؟.. تعجز عن أن تخلق المسافة بينك وبين الإحساس الحقيقي الذي يدفع إلى نشوة المغادرة، والتحرر من سجن الزحام.. ليس أمامك سوى التأمل للتحرر من هذا الواقع الصعب.. التأمل الذي يخلق لك واقعاً خاصاً مليئاً بالأسئلة.. كل الأسئلة التي تناهض ما أنت فيه رغم استسلامك له.. لماذا تضيق المدن بمن فيها؟ وما هذا الانفجار السكاني الذي نحن فيه؟ وكيف يذوب الجمال ليتحول إلى صور غائبة تبحث عن ملامحها؟ ولماذا يزداد الخلل، وتتكاثر العيوب داخل المدن بعد سنوات من تخطيطها؟ وما الذي يمكن تداركه الآن؟ ولماذا هذه الأعداد الرهيبة من غير السعوديين الذين يمتلكون سيارات ويكثفون الزحام؟ هل هذه جدة التي تتحول، وتحولنا معها إلى مساجين داخل شوارعها، محاصرين غير قادرين على التنفس، أو مغادرة المأزق؟ هو وجه جدة الذي سيظل بعيوبه التي من الصعب تداركها نصاً خارج حدود ما يجري، لمن اعتاد انبهار المسألة في العشق فقط..