كيف تؤثر الخيارات الثقافية على فرص الاستقرار الوطني والإقليمي، واستتباعاً الدولي؟. وفي عصرنا الراهن، الموسوم قيميّاً بعصر العولمة، والمعرّف استراتيجياً بعصر ما بعد الحرب الباردة، هل يمكن للخيارات الثقافية السائدة في منطقة ما، أن تغدو جزءاً أصيلاً من مقاربة الأمن في منطقة أخرى، تقع على بعد آلاف الأميال؟. أجل، هذا ما انتهت إليه النقاشات النظرية والسياسية في الولاياتالمتحدة الأميركية، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 1002. وحيث نُظر إلى الخليج العربي باعتباره المنطقة التي تستوجب المزيد من النقاش الخاص بمقاربة العلاقة بين الثقافة والأمن. وهو ما حدث فعلاً، وعلى نحو كبير. وبعد عامين من انطلاقته، بدا النقاش الأميركي وقد شهد إعادة إنتاج جزئي، دفعت باتجاهه الحرب في العراق، اعتباراً من العام 3002. وفي إعادة الإنتاج هذه، برز عنصر جديد في المقاربة، عني بالعلاقة بين العنف السياسي والميول الطائفي المتطرف. لقد ظهرت، منذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر، العديد من الدراسات الأميركية، التي نظرت إلى الخليج باعتباره "بيئة حاضنة للإرهاب". وبعد ذلك، جاءت الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت الرياض والكويت، والمحاولات التي تم كشفها في مناطق أخرى من الخليج، لتعزز من الهواجس الأميركية، بقدر قرعها لأجراس الخطر في المنطقة. وفي الثالث عشر من تشرين الثاني نوفمبر، كتب (RICK LYMAN) ،في صحيفة نيويورك تايمز، مقالاً بعنوان (At Least for the Moment, a Cooling Off in the Culture Wars)، رأى فيه أن أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر، قد مثلت "الوريث الشرعي" للثقافة الصدامية مع الآخر، فضلاً عن كونها هجوماً على ثقافة هذا الآخر. ورأى مقال آخر، في الصحيفة ذاتها، بعنوان ( Uncertainty Is the Most Lethal Weapon of Terror)، أن هذه الأحداث قد عبرت عن "أخطر ثقافة" يواجهها القرن الحادي والعشرين. أما (COREY KILGANNON )، فقد اعتبر في مقالة له بعنوان (EDUCATION; The Legal Aspects Of Fighting Terrorism ) أن الدراسات القانونية باتت معنية بتقديم إجابات واضحة، حول المواءمة بين مواجهة الإرهاب وحماية الحريات الخاصة والحقوق المدنية. ومن جهته كتب ( HYPERLINK "http://topics.nytimes.com/top/opinion/editorialsandoped/oped/columnists/nicholasdkristof/index.html?inline=nyt-per" \o "More Articles by Nicholas D. Kristof" NICHOLAS D. KRISTOF) موضوعاً بعنوان (It Takes a School, Not Missiles ) ،دعا فيه إلى إعطاء أولوية للتربية والتعليم في مواجهة خطر التطرف.وذهب (Robert Thompson ) من ناحيته إلى القول بأن الثقافة الشعبية الأميركية (Pop Culture ) لم تجعل الأميركي العادي يتوقع حدثاً كالذي جرى في الحادي عشر من أيلول سبتمبر. وكما ظاهرة الإرهاب، كذلك بدت التوترات الاجتماعية(Social Tensions)، ذات المنشأ الطائفي والمذهبي، محل اهتمام متزايد من قبل الساسة والباحثين الأميركيين، اعتباراً من العام 3002.ولم يكن البحث في هذا الصنف من المعضلات الاجتماعية بالأمر الجديد على الخبراء الأميركيين، ومراكز الأبحاث الأميركية المهتمة بشؤون المنطقة، إلا أن الجديد هو تنامي الاتساع الأفقي والرأسي للنقاشات الدائرة.وكان أن التحدي الطائفي (Sectarian Challenge )، الذي واجه الحياة السياسية والاجتماعية في العراق، السبب الرئيسي الذي دفع باتجاه زيادة التركيز الأميركي على دراسة هذه الظاهرة في منطقة الخليج. في العراق، استنتج الأميركيون أن بعض المجموعات المتطرفة قد استخدمت الطائفية كقوة نسف للوحدة الوطنية، التي راهن الساسة العراقيون عليها، كسبيل لإعادة بناء الدولة.ورأى الأميركيون أن التفجير الذي استهدف جامع سامراء، في 22 شباط فبراير 6002، كان بداية مخطط كبير لجر العراق إلى أتون حرب مذهبية بين السنة والشيعة.وحسب واشنطن، فإن هذه الاستراتيجية قد نجحت مرحلياً، فكان القتل على الهوية في بغداد، ومدن العراق الأخرى، إحدى معالمها الأكثر بشاعة، حيث قتل 071 مدنياً عراقياً، من الشيعة والسنة، خلال الثماني والأربعين ساعة اللاحقة لذلك التفجير، توزعت أعدادهم بين مناطق وأحياء عراقية مختلفة. ولم تُفلح في وقف هستريا العنف الطائفي(sectarian violence) كافة النداءات التي وجهتها القيادات العراقية السنية والشيعية، على حد سواء. والتي دعت إلى تجنب منطق الثأر والثأر المضاد، فبدأ العراق غارقاً في ظلام فتنة عمياء لم يعهدها منذ قرون طوال. وحسب الإحصاءات الرسمية، فإنه بين 22 شباط فبراير 6002 و02 تموز يوليو من العام نفسه، شهد المدن العراقية نزوحاً جماعياً، شمل أكثر 261 ألف شخص من مناطق شيعية وسنية مختلفة، نتيجة للصدامات الطائفية. يقول الجنرال ديفيد دجيه. كيلكلين، وهو ضابط سابق في الجيش الأسترالي، شغل منصب كبير مستشاري الجنرال قائد القوة متعددة الجنسيات في العراق لشؤون مكافحة الإرهاب: "إن الإرهابيين يستغلون أنظمة معتقدات عميقة الجذور في أسس الهوية الدينية، لإيجاد ردود فعل فتاكة جداً، وغير عقلانية بين المجموعات الاجتماعية". وفي آذار مارس من العام 6002، بعث قارئ أميركي برسالة إلى صحيفة " نيويورك تايمز"، يسأل فيها : لماذا يستخدم مراسليكم تعبير العنف الطائفي بدلاً من الحرب الأهلية لوصف الأحداث الدائرة في العراق؟. وما الفرق بين الأمرين؟. فرد محرر الشؤون العامة في الصحيفة على القارئ بمقال تحت عنوان (Civil War or Sectarian Violence? ) قال فيه: إن العنف الطائفي هو صراع بين مجموعات مذهبية أو عرقية، وقد تكون له مسببات عديدة. لكن النتيجة هي أن العنف يستند في هذه الحالة إلى اختلافات مذهبية أو عرقية. والحرب الأهلية، بدورها تتسم بصفة العنف الطائفي، لكنها أكثر انتظاماً، وأقل تقطعاً.بتعبير آخر – تُضيف الصحيفة - الحرب الأهلية أكثر انتشاراً، ومنظمة في الغالب. وهل وصل العراق إلى هذه النقطة؟. تجيب الصحيفة: هناك وجهات نظر متباينة بهذا الشأن.لكننا لا نعتقد أن العراق بلغ ذلك تماماً. وما تجمع عليه غالبية الأدبيات هو أن الحرب الأهلية هي التي تديرها جماعات منظمة، تتقاتل فيما بينها في إطار بلد واحد، بغض النظر عن انتماءاتها العرقية أو المذهبية. ومن المقالات التي سعت لاستجماع النقاش النظري في هذا الخصوص، استناداً لقواميس الحرب المختلفة، ذلك الذي كتبه ( HYPERLINK "http://query.nytimes.com/search/query?ppds=bylL&v1=WILLIAM%02SAFIRE&fdq=10101891&td=sysdate&sort=newest&ac=WILLIAM%02SAFIRE&inline=nyt-per&inline=nyt-per" \o "More Articles by William Safire" WILLIAM SAFIRE ) في نيويورك تايمز، في التاسع من نيسان أبريل 6002، بعنوان (War Names). ويُمكن للمهتمين بتعريفات الحرب الأهلية والطائفية الرجوع إليه. ولا ريب أن حوادث العنف الطائفي التي شهدها العراق، وخطر تمددها، قد مثل تحدياً وطنياً وإقليمياً متعاظماً، كما عبر في الوقت نفسه عن نمط جديد من المعضلات التي باتت تواجها السياسة الأميركية في المنطقة. ومع دخول بعض المجموعات والقوى السياسية لعبة الصراع الإقليمي بأجندة وأدوات طائفية، اقتربت المسألة الطائفية من كونها معضلة جيوسياسية (Geopolitical Dilemma ). وفي هذا قدر من التحول التاريخي، إذ لم يكن البُعد المذهبي بعداً صريحاً ومعلناً حتى في الحروب الكبرى التي شهدها تاريخ الشرق بين إمبراطوريات متنافسة، ومتباينة مذهبياً. وقد سادت خشية في أوساط الإدارة الأميركية من انتقال العنف الطائفي إلى دول أخرى في المنطقة, كما سمعت وزيرة الخارجية حينها كوندوليزا رايس مخاوف بهذا الشأن من عدد من المسؤولين العرب، الذين التقتهم في شانون بايرلندا، في الثالث والعشرين من شباط فبراير 6002، حيث بدت المنطقة على فوهة بركان طائفي. وفي بيانهم المشترك، الصادر في أعقاب الاجتماع الذي عقدوه في 42 أيلول سبتمبر 8002، في مدينة نيويورك، أدان وزراء خارجية كل من دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر والأردن والعراق والولاياتالمتحدة، العنف الطائفي، والنزعات المذهبية، المسببة للشقاق الداخلي والإقليمي. وقد بدت دول مجلس التعاون الخليجي معنية بتحديد موقع علاقتها ببغداد من قضية التوترات المذهبية العابرة للدول، التي خشي حينها أن تمثل، في لحظة، تحدياً خارج السيطرة. وبدا ثمة خياران أمام دول الخليج على هذا الصعيد: الأول تحييد العلاقات الخليجية العراقية عن مناخ التوترات المذهبية، والمضي فيها دون الالتفات لهذا الخطر.والثاني استنفاذ وتسخير هذه العلاقات للسيطرة على مظاهر الغلو المذهبي في المنطقة، وفق سياسات واضحة ومحددة. ولعل تجربة سنوات الحرب العراقية الإيرانية تشير إلى أهمية الأخذ بالخيار الثاني، مع ضرورة التشديد على أن تحدي اليوم هو أكثر خطورة من تحدي عقد الثمانينيات، الذي شحنته حرب السنوات الثماني بقدر مهول من التجاذبات المذهبية، المدمرة للاستقرار الإقليمي، والناسفة لفرص التعايش على المستويات كافة. وبالعودة إلى أصل النقاشات المستجدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر، فإنّ القاسم المشترك، المجمع عليه بين كافة الفرقاء، إن في الولاياتالمتحدة أو دول الخليج، هو ضرورة العمل على تعزيز قيم التسامح وقبول الآخر، الثقافي والديني، وعدم المساس بكرامته أو أمنه الشخصي. في المقابل، جرى التأكيد على أن ثقافة الغلو الديني أو المذهبي، ورفض الآخر، تُمثل إحدى أكثر مهددات الاستقرار الإقليمي، واستتباعاً الدولي، باعتبارها تشكل الأرضية الثقافية للعنف، بما في ذلك ظاهرة الإرهاب السياسي. ونحن في دول الخليج معنيون بالحفاظ على سلمنا الأهلي، الذي يُمثل أسمى مكاسب هذه المنطقة. معنيون بتأكيد قواسمنا المشتركة، التي أدامت هذا السلم، وجعلت من العيش المشترك حقيقة قائمة، داخل كل دولة خليجية، وبين الخليجيين عامة. إن بناء وطن العيش المشترك يتطلب منا النظر إلى الآخر من زاوية تماثله لا تمايزه. ونحن معنيون باستلهام المعاني الفذة لتاريخنا المشرق الوضاء، حيث عاش الأجداد سوية في سهوب وهضاب هذه المنطقة. جمعتهم الألفة والمحبة، وضربوا أروع الأمثال للتعاون والتعاضد، في المراعي والمزارع والبحار. فتقاسموا التمر والإبل، لم تباعد بينهم الأناء، ولم تفرقهم المصالح. واليوم، فإن تمسكنا بالعيش المشترك، المتوّج بقيم المحبة والتسامح، يُمثل خير وفاء لهؤلاء الرجال الصالحين.