في كلمة لها أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، التي أقرت تثبيتها في منصبها كوزيرة للخارجية، قالت هيلاري كلينتون:"يؤمن الرئيس المنتخب وأنا بأن السياسة الخارجية يجب أن تقوم على أساس من التزاوج بين المبادئ والاستشراف العملي، وليس على الأيديولوجية العقائدية المتصلبة. على الحقائق والأدلة، لا على الانفعال والتحيز". وهكذا، نحن بصدد خطاب يؤكد الوعود التي أطلقها الرئيس باراك أوباما خلال حملته الانتخابية، والتي سارع إلى ترجمتها بمجموعة من الخطوات الخاصة بالعراق وأفغانستان وآسيا. وإعادة التأكيد على خطته الخاصة بفتح حوار مباشر مع إيران. وهذه النقطة الأخيرة تُمثل ما يُمكن اعتباره بحذر المتغيّر الجديد في السياسة الأميركية الخاصة بالخليج. وهذا المتغيّر، الافتراضي أو المتجه نحو التحقق، يخضع اليوم لكثير من النقاش السياسي والنظري، وخاصة من قبل الكتاب والباحثين الأميركيين. وفي الأصل، ثمة تفاوت في وجهات النظر، داخل الوسط السياسي الأميركي، حول الخيار الأنسب لمخاطبة من يتم تصنيفهم باعتبارهم خصوماً. ويدور النقاش هنا حول ما إذا كان الحوار مع هؤلاء يجب أن ينطلق ثنائياً (مباشراً) أم متعدداً، وتحديداً بحضور فرقاء إقليميين معنيين بالقضايا موضع البحث. وكمثال، أشارت وزيرة الخارجية الأميركية ( السابقة) كوندوليزا رايس، في مقابلة لها مع شبكة ( CNN)، في السابع عشر من كانون الأول - ديسمبر الماضي، إلى أن البعض يرغب بأن يكون اتصال الولاياتالمتحدة مع كوريا الشمالية على مستوى ثنائي مباشر، "بدلاً من القوة التي منحتها إياها المحادثات السداسية، فوجود الصين منحنا قوة كبيرة، ووجود كوريا الجنوبية منحنا أيضاً قوة عالية. نعم، كان بإمكاننا أن نتصل بهم على مستوى ثنائي، ولكنني لا أعتقد أن ذلك الخيار كان سيعطي فاعلية كبيرة". هذا النقاش ذاته يدور اليوم حول إيران: فهل يكون الحوار المباشر معها مباشراً بالكامل، أي عبر مباحثات ثنائية؟، أم عبر طاولة حوار إقليمي( أو إقليمي دولي)؟.وهل تبدأ واشنطن بالثاني لتنتهي إلى الأول؟. وماذا عن فكرة التفاوض عبر وسطاء، على النحو الذي تعرضه تركيا على كل من إيرانوالولاياتالمتحدة؟. والذي يمكن استنتاجه، حتى الآن، هو أن الأميركيين لم يحسموا أمرهم بعد. ويبدو أن انشغالهم بإعادة بناء استراتيجياتهم في العراق وأفغانستان سيحول، لوقت من الزمن، دون إعلان الخطة الخاصة بإعادة توجيه العلاقة مع إيران، أو لنقل مسيرة ترميم هذه العلاقة، أو الحد من التوترات الكامنة فيها. ومنذ بضعة أعوام، دخل عدد من الباحثين الأميركيين في نقاشات تفضيلية للخيار التفاوضي مع إيران بما هو أولوية، اعتقدوا بضرورة السعي إليه. وتزامن تبلور هذه النقاشات مع صدور تقرير مجموعة دراسة العراق، في العام 2006 ،التي شكلها الكونغرس، برئاسة كل من وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، والنائب الأسبق لي هاملتون. حيث جاءت توصيات التقرير في سياق تصالحي مع طهران، وضمن رؤية تُعيد السياسة الأميركية إلى ما يُعرف بالمدرسة الواقعية. كما مثلت هذه التوصيات، في أحد أبعادها، التطوّر الأبرز على صعيد "المقاربة الأميركية" للعلاقة بين أمن الخليج والنزاع العربي - الإسرائيلي. وهي قد استجمعت قدراً كبيراً من عناصر البيئة الإقليمية المستجدة، سياسياً وأمنياً.هذا على الرغم من أن تقرير بيكر – هاملتون لم يُعبر عن وجهة نظر رسمية، بل عن مناخ فكري وسياسي ينادي بالعودة إلى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، ويرى أن الولاياتالمتحدة لا مصلحة لها في المضي قدماً في سياسة "بناء الأمم". وعلى الرغم من أحاديث الحرب، والاتهامات المتبادلة، التي هيمنت على مناخ العلاقات الأميركية - الإيرانية في السنوات الست الماضية، سيما الثلاث الأخيرة منها، فإنّ بعضاً مما يمكن اعتباره اتصالاً أميركياً - إيرانياً قد حدث بالفعل، حيث كانت هناك مباحثات في بغداد، على مستوى السفراء حول أمن العراق. كما كان البلدان حاضرين سوية في عدد من الاجتماعات الإقليمية الخاصة بالوضع العراقي. وربما كان الأبرز في الأمر هو إيفاد الولاياتالمتحدة لمساعد وزير خارجيتها، وليام ببرنز، إلى جنيف، للمشاركة في المحادثات السداسية بشأن الملف النووي الإيراني، التي جرت في أيلول - سبتمبر من العام 2008. وحيث قالت رايس، في وقت لاحق، إن بلادها قد غيّرت نهج تعاملها مع إيران عبر إيفاد ببرنز إلى جنيف. وقالت رايس: "قلنا بشكل واضح إن أي بلد يُمكن أن يغيّر موقفه... إنها إشارة واضحة للعالم أجمع على اننا كنا جادين بشدة بشأن النهج الدبلوماسي، وسنستمر في ذلك". وكانت قد سادت تكهنات في صيف العام 2008، عن قرب افتتاح الولاياتالمتحدة مكتباً تمثيلياً لها في طهران، بعد تصريحات أميركية بهذا الشأن وترحيب إيراني مباشر بها. إلا أن الموضوع ما لبث وسحب من التداول، إذ أن ظروفه الموضوعية لم تكن على ما يبدو قد توفرت. وبالعودة إلى خطة الرئيس أوباما الخاصة بفتح حوار مباشر مع إيران، فقد حملت الصحف الأميركية الكثير من التقارير والمقالات، التي ناقشت هذه الخطة من أبعادها المختلفة. فقد رأى ( HYPERLINK "http://www.csmonitor.com/cgi-bin/encryptmail.pl?ID=B2B0B0B4B0B3B0B1B1B6B2B3B4B6&url=/2009/0206/p05s01-wome.html" Scott Peterson) في مقال له في كريستيان ساينس مونيتور، بعنوان (Is Iran prepared to undo 30 years of anti-Americanism?)، إن إيران ردت ( حتى الآن) على عرض أوباما بعدد من التصريحات المتضاربة. ومن جهته، شكك (ROGER COHEN)، في مقالة نشرها في نيويورك تايمز بعنوان (The Unthinkable Option )، في مشروع أوباما حيال إيران، مذكراً بأنّ الرئيس الأميركي قد قال خلال حملته الانتخابية إنه لن يرفع الخيار العسكري ضد طهران من على الطاولة، وإن هيلاري كلينتون قد أعادت بدورها التأكيد نفسه، في جلسة الاستماع التي عقدها الكونغرس لتثبيتها كوزيرة للخارجية. كما أعاد هذا التأكيد وزير الدفاع روبرت غيتس. وقد رأى كل من ( HYPERLINK "http://www.foreignaffairs.org/author/richard-n-haass/index.html" Richard N. Haass ) و ( HYPERLINK "http://www.foreignaffairs.org/author/martin-indyk/index.html" Martin Indyk)، في دراسة مشتركة لهما بعنوان (Beyond Iraq: New U.S. Strategy for the Middle East)، نشرتها الفورين أفيرز، في عدد كانون الثاني يناير/ شباط فبراير 2009 ،أنه بالنظر إلى التجربة التاريخية، فإنّ دول المنطقة تخشى من عودة إيران لفرض هيمنتها على الإقليم. وهذان الباحثان يُعبران، في واقع الأمر، عن قلق أميركي بهذا الشأن، ذلك أن الحوار المرتقب بين واشنطنوطهران يُراد له أن يُراعي الهواجس الإقليمية السائدة اليوم. بدوره، يُشير ( HYPERLINK "http://topics.nytimes.com/top/reference/timestopics/people/b/ethan_bronner/index.html?inline=nyt-per" \o "More Articles by Ethan Bronner" ETHAN BRONNER)، في تقرير له في نيويورك تايمز بعنوان (Mission to Tehran )، إلى أنه فيما يتعلق بالحوار الأميركي - الإيراني المرتقب، فإنّ بعض السياسيين، في الولاياتالمتحدة والمنطقة، قد جادلوا بأنّ "كل الطرق تؤدي إلى تل أبيب". وقال هؤلاء: ليحل النزاع العربي - الإسرائيلي، وعندها ستختفي الأزمات الأخرى في المنطقة، بما في ذلك إيران والعراق ولبنان، والتجاذبات العربية - العربية. وعلى صعيد مضامين الحوار الأميركي - الإيراني، أكد (ROGER COHEN)، في مقالة له بصحيفة نيويورك تايمز، بعنوان(U.S-Iranian Conversation) ، على أهمية أن تدرج إدارة الرئيس أوباما في حوارها مع الإيرانيين قضية التسلّح بوضعه العام. وأن لا يقتصر الأمر على البرنامج النووي الإيراني. وفي إطار النقاش الدائر حول هذا البرنامج، يذكر ( HYPERLINK "http://www.foreignaffairs.org/author/scott-d-sagan/index.html" Scott D. Sagan)، في دراسة نشرها في الفورين أفيرز، بعنوان (How to Keep the Bomb From Iran)، نقلاً عن وسائل إعلام أميركية، أن مسؤولاً أميركياً قال :"في الحقيقة، إن أغلبنا يعتقد أن الإيرانيين ماضون، على الأرجح، باتجاه امتلاك سلاح نووي عاجلاً أم آجلاً". أما ( HYPERLINK "http://topics.nytimes.com/top/reference/timestopics/people/s/david_e_sanger/index.html?inline=nyt-per" \o "More Articles by David E. Sanger" DAVID E. SANGER )، فيذكر ، في مقال نشره الشهر الماضي في نيويورك تايمز، بعنوان (Iranian Overture Might Complicate Relations With Israel)، نقلاً عن أوساط مطلعة، بأنّ الكثير من الدول الغربية، بما فيها الولاياتالمتحدة نفسها، ترى أن برنامج إيران النووي ما هو إلا غطاء للوصول إلى القنبلة النووية في يوم ما.وكان( HYPERLINK "http://topics.nytimes.com/top/reference/timestopics/people/h/warren_hoge/index.html?inline=nyt-per" \o "More Articles by Warren Hoge" WARREN HOGE) قد أشار في تقرير نشره في نيويورك تايمز، في تشرين الثاني - نوفمبر 2007، ، نقلاً عن مصادر ذات صلة، إلى أنه تم إبطال ما لا يقل عن 75 محاولة إيرانية لشراء مواد نووية، بطرق مختلفة. وقد فرضت الولاياتالمتحدة، في تشرين الأول - أكتوبر 2008، عقوبات على عدد من الشركات الأجنبية، بتهمة تصديرها تكنولوجيا، لكل من إيران وسوريا وكوريا الشمالية، يُمكن استخدامها في تطوير صنع أسلحة نووية.وكان رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، عاموس يدلين، قد قال في حديث له أمام الكنيست، في 8 آذار - مارس 2009، إنّ إيران قد عبرت "العتبة التكنولوجية" (Technological Threshold )، اللازمة لصنع القنبلة النووية. وكان رئيس هيئة الأركان الأميركية، الأميرال مايك مولن، قد صرح مطلع آذار - مارس الجاري بأنّ الولاياتالمتحدة تعتقد أن إيران قد حصلت على ما يكفي من مواد لصنع قنبلة نووية واحدة. ومن الثابت أن البرنامج النووي الإيراني سيكون البند الرئيسي في أي حوار أميركي قادم مع طهران.وربما يكون هذا هو أصعب البنود، لكنه على الرغم من ذلك، هو أكثرها وضوحاً، على الأقل على مستوى المقاربة الأميركية، ورؤية الحلفاء الأوروبيين والإقليميين. وفي سياق النقاش الدائر، تتبدى إحدى القضايا الشائكة في مدى القدرة على الوصول إلى رؤية وسط، حتى لا نقول جامعة، لمستقبل ترتيبات الأمن الإقليمي (Regional Security Arrangements ) في الخليج، وموقع الفرقاء المختلفين منها، بما في ذلك إيران. وكانت طهران قد وعدت في سلة الحوافز، التي قدمها السداسي الدولي، قبل بضعة أشهر، بدور إقليمي، لم تكن ذاتها تحلم بالمستوى الذي ذهب إليه. وعند هذه النقطة بالذات، تتداخل المقاربة الأميركية للعلاقة بإيران بمنظورها الكلي لأمن الخليج، وموقع الأطراف المختلفة فيه.كما تبدو العلاقات الثنائية والمتعددة بين دول مجلس التعاون الخليجي وكل من إيران والعراق معنية على نحو مباشر بهذا الأمر. وقبل الخوض فيما يقوله الأميركيون في هذا الشأن، دعونا نرَ ماذا يقول الخليجيون أنفسهم. لقد ظلت الدول العربية في الخليج، منذ سبعينيات القرن الماضي، متباينة فيما بينها حول ماهية الخيار الأمثل لترتيبات الأمن الإقليمي. وقد طُرح في المنطقة السؤال التالي: هل يجب إقامة نظام أمن جماعي (أو صيغة من صيغ الأمن المشترك)، يضم الدول الثماني المشاطئة للخليج، أي الأقطار الستة الذين يُمثلون حالياً مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى إيران والعراق؟. على مدى العقود الثلاثة الماضية، قال الداعون للأخذ بترتيبات الأمن الإقليمي المشترك، إن من شأن خيار كهذا أن يحد من مناخ التوترات القائمة، ويمنع تفاقمها. ومن ثم يُجنب المنطقة خطر التفجرات الأمنية. كما من شأن هذا الخيار إيجاد أرضية سياسية وسيكولوجية للبحث في قضايا الخلاف العالقة، وتحديداً تلك القائمة مع العراق وإيران. في المقابل، رأى المعارضون لخيار ترتيبات الأمن الإقليمي المشترك، أن خطوة كهذه تُعد بمثابة وضع العربة أمام الحصان. وإنّ دول المنطقة يجب أن تبدأ أولاً بحل الخلافات العالقة بينها، لتخلق بذلك جسوراً من الثقة تُعبد الطريق لمشاريع مشتركة للأمن الجماعي، بل وللتعاون الإقليمي المشترك، في كافة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. وفي مقابل هذين الطرحين، تبلور في السنوات الأخيرة خيار ثالث، يدعو للبدء بتعاون أمني إقليمي، على مستوى ما بات يُعرف بقضايا "الأمن الناعم" (Soft Security)، مثل إقامة قوة مشتركة لمواجهة القرصنة، وحماية الممرات الاستراتيجية في الخليج وبحر العرب ، وبناء فرق مشتركة لمواجهة الكوارث الطبيعية، والتعاون في مجال حماية البيئة ، وسواها من قضايا مماثلة. هذا على صعيد النقاش الدائر في الخليج، أما بالنسبة للولايات المتحدة نفسها، فقد تحاشى الأميركيون، منذ العام 1979، دعم أية فكرة لإقامة تفاهمات للأمن الإقليمي بين الدول العربية في الخليج وإيران. وهذا هو موقفهم أيضاً فيما يتعلق بالعراق، منذ بدايات تبلور الدور الأمني الأميركي في المنطقة، قبيل الانسحاب البريطاني منها، الذي تم نهائياً في العام 1971. كذلك، تحفظ الأميركيون على "إعلان دمشق"، الذي وقعته دول مجلس التعاون الخليجي مع كل من مصر وسورية في العام 1991، على خلفية مشاركة هاتين الأخيرتين في حرب الخليج الثانية. ودعت الولاياتالمتحدة، في المقابل، إلى نظام للأمن الإقليمي يستند إلى منظومة اتفاقيات ثنائية ومتعددة، بينها وبين دول مجلس التعاون الخليجي. وبلورت وزارة الدفاع الأميركية، بصفة خاصة، مشروعاً للدفاع المضاد للصواريخ، رأت أن من شأنه حماية دول المنطقة من الصواريخ الباليستية الإيرانية. إلا أن هذا المشروع لم يُقدر له رؤية النور، لعدة أسباب: أبرزها تفاوت المواقف الخليجية حياله، وتكلفته المالية العالية، التي تتجاوز مبدئياً العشرة مليارات دولار، وخشية بعض الدول الخليجية من أن يكون بداية لمزيد من التوتر في العلاقة مع إيران. وبعد سقوط حكومة الرئيس العراقي، صدام حسين، في العام 2003، بدت الولاياتالمتحدة مهتمة بإشراك العراق في صورة من صور ترتيبات الأمن الإقليمي المشترك مع دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أن الرغبة الأميركية هذه اصطدمت بتحفظات خليجية.