وجدت نفسي في لندن وكأنني في مهمة ابتعاث لتلقي معلومات جديدة على ذاكرتي ومعلوماتي، وبالتالي رؤيتي لمجتمعي.. لن يكون المواطن مقسماً إلى صنفين.. غني يمثل أقلية تتواجد في مطاعم الخمس نجوم، ويسير الواحد في شوارع المعروضات الثمينة وهو (مرصوص) بثقل الوجاهة، أما من شاء أن يسافر بعيداً عن الطقس الحار فإن عليه استبدال سخونة بأخرى، حين تقوى إمكاناته على سياحة القاهرة أو البحرين. لقد أفرز غني الأقلية ضخاً هادئاً على مسار توسيع الطبقة الوسطى بدعم تبرعات التعليم وفرص العمل، فاستطاع سائح البحرين والقاهرة أن يقفز إلى روما ثم لندن بحكم توسع طبقته الوسطى، ومن هم في ابتعاث التعليم من قرى نائية سيكونون في نجومية هذه الطبقة.. ليس هذا كل شيء لكن هل تعرف شيئاً عن ملامح جازان، أرض فنِّنا الغنائي الأول عندما يتردد في أجوائها: يا نسيم الصبا سلم على باهي الخد.. فنطرب، وعن نجران أو حائل وما حولها، حيث السامري يتألق في الأجواء من عنيزة.. لم يعد شبابهم أو شباب أبها وتبوك وأرض (باهي الخد) يتزاحمون عند مكتب الخطوط، بحثاً عن حجز للرياض أو جدة لأنه ليس أمامهم إلا جامعات محدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.. لا.. لا.. هذا قد تغير تماماً. أبصرت شواهده في لندن شباب ما كنا نسميه بالمدن الثانوية، حيث ألغى الملك عبدالله عملياً هذا التعريف، ودفع بجازان لتأهيلها كي تكون رياض الجنوب، وبحائل لتكون (جدة) الشمال لكن بدون بحر، نفس الكلام ينطبق على نجران وأبها ومدن أخرى كانت قرى صغيرة.. تعميم التعليم العلمي شامل ولافت للغاية يتماشى مع مشاريع تنوع الاقتصاد ومجالات الاستثمار.. قلت في البداية كنت كما لو أنني جئت لندن مبتعثاً، وهذا صحيح، حيث تصادف أن أقامت الملحقية الثقافية حفل افتتاح مقرها الجديد بحضور عدد كبير من الأكاديميين، وذلك بعد مؤتمر قمة العشرين، فقد تجاورت مهمتان تعرفت خلالهما على ملامح حضورنا الجديد.. نعرف كيف عبر (أوباما) عن احترامه للملك عبدالله بشكل لفت انتباه الأوروبيين قبلنا، وإن يكن أوباما مهذباً وهو قائد أكبر دولة عظمى فإنه لم يسمي نفسه ملك ملوكها، فقد نقل لي ممن شاهدوا لقاءات القادة أن الرئيس الصيني بدا وهو يتجه للملك عبدالله مرحباً كما لو كان يحتفي بشقيق يمتلئ بالاحترام له.. وقالوا: لقد بدا الرئيس الهندي في تعبير المحبة وكأنه يجري طقوساً روحية.. الكل أحب رجل المناداة بالسلام العالمي وحوار الأديان، الكل لمس الفروق الشاسعة بين زعامات الخطابة والانشطار وتحويل وطنهم بقواه وأمواله إلى مجرد مكرفون أو حذاء سباق.. ألمس وبشكل جيد - وكلنا ندرك ذلك - أن الملك عبدالله ليس حريصاً على تمجيد ذاته، لكن ما أنا وأنت حريصان عليه هو تفهم حجم إشراقة المسار الذي نحن فيه.. الرجل الكبير فتح لنا طرقاً اقتصادية وصناعية وتعليمية علمية، وعلينا أن نتفاهم ونركض بأكثر ما نستطيع حتى نصل بعد سنوات قد تكون ما بين العشرين والثلاثين إلى مصاف الزمالة الأوروبية. نعترف أن لدينا فقراً وشيئاً من الأمية وشيئاً من الانغلاق، لكننا لسنا ثابتين على ذلك مثل غيرنا، حيث إن تعدد مسارات التطوير بالتعقل والحوار تقودنا نحو الأفضل.. شاهدت حجم الابتعاث الهائل الذي ذكر لي أنه يفوق ابتعاثات الهند والصين بالنظر إلى الفروق الهائلة بالنسبة السكانية.. كان وزير التعليم العالي في فندق الانتركونتننتال يتنقل من طاولة لأخرى بين مجاميع من الطلبة للحوار معهم في احتياجاتهم.. في ظروفهم. مدير جامعة الملك سعود وهو ضيف الملحقية يمتلئ بمعلومات مذهلة عن عدد الجامعات الذي أصبح يفوق ما هو موجود في أربع دول عربية مجتمعة وبالذات في المجال العلمي، وأن البنات الراكضات علمياً نحو التفوق في الخارج يتجاوزن الخمسة والعشرين ألفاً، وطبعاً نحن عبر السنوات أمام أرقام تتزايد خلف بعضها.. عبدالله بن عبدالعزيز يمتلئ بالاطمئنان فمع عالميته المبهرة نحن ندخل معه نحو عالمية تطورنا الاقتصادي والعلمي..