كلنا يرى حوله الكثير من مظاهر نهضتنا في معظم جوانب حياتنا الخاصة والعامة، ولكن الحاجة ماسة إلى اكتمال مظاهرها لتتألق، ولقد قرأت الكثير عن النهضة، وسبل تحقيقها، وعوامل ازدهارها لكُتاب، وعلماء بارزين عرباً، وغير عرب.. ومن أبرز من فهموا النهضة، وصوروا جوانبها.. وحددوا عناصر ازدهارها - في العصر الحديث - الكاتب والفيلسوف الشهير مالك بن نبي، ولا تخلو أي كتابة، أو حديث عن النهضة من ذكر مؤسسات التربية والتعليم، بوصفها الأساس الأول، والعامل الأهم في بناء أي حضارة.. وازدهارها في أي أمة سبقت أو لحقت؛ لأنها مؤسسات تعنى ببناء الإنسان وإعداد لحياة ومستقبل أفضل. ** ** ** ولماذا تكون المؤسسة التعليمية هي الأساس الأول في بناء النهضة؟ والجواب هو: أن الإنسان هو صانع الحضارة، وهو المشيِّد للتنمية. إذ ليست هناك حضارة متطورة إلا بتنمية مستديمة، ومستمرة.. والمؤسسة التعليمية هي موقع إعداد الإنسان لهذه المسؤولية الجسيمة. وما لم يكن الصانع على علم ودراية بما يصنع ويشيد فلن يحسن الصناعة والتشييد، ولن يكون إنتاجه متميزاً، وهو إنما يفعل ذلك كله من أجل رخاء مجتمعه، ورفاهيته، وتطوره، وتحضره، وتقدمه. والتربية ليست مقصورة - كما يفهم الكثيرون - على أنها التربية الأخلاقية فقط.. بل إنها تعني كل تقويم، ورعاية، وتعليم، وتدريب، وتأهيل للإنسان، وفتح آفاق فكرية تصل به إلى كل إبداع. ** ** ** واليوم يتردد كثيراً على ألسنة الناس لومُ مؤسسات التربية والتعليم على اختلاف مستوياتها ومراحلها، ويتحدثون عن تقصيرها في أداء رسالتها، يتناول كُتاب الصحف اليومية هذا الموضوع من مختلف زواياه، وتتطرق التقارير الدولية إلى تدني مستوى التعليم في بلادنا العربية. ** ** ** وكان موقفي ولايزال أن التعليم في بلادنا وفي البلاد العربية من حولنا قد حقق إنجازات كبيرة ومبهرة. وأن إيجابياته تفوق سلبياته. نعم هناك قصور في بعض الجوانب، وهذه طبيعة كل شيء، وهناك قدرة محدودة لدى تلك المؤسسات في بناء فكر مستقل، مستمد من ثوابت عقيدة المجتمع، وفي صياغة مستقبله وفق آماله ومتطلبات العصر الذي يعيشه وسيحياه، وذلك ناتج عن عوامل عدة صاغها أحد التربويين اللامعين في مقولته التي أشار فيها إلى: "أن قصور مؤسسات التربية والتعليم على اختلاف مستوياتها في الماضي والحاضر عن تحقيق غايات كانت ولا تزال هي المسوغ لوجودها لا يعني أن تلك المؤسسات لا يمكنها في المستقبل مضاعفة قدرتها على البناء الجيد، وصنع المستقبل اللاحق بالسرعة المرجوة، وفي الاتجاه السليم". ويمضي قائلاً: "إن مؤسسات التربية إذا أخلص لها النظام السياسي في توجهها السليم، وبكل السبل دون حدود ولا قيود، وأخلصت هي له على بصيرة. وهي إذا وجدت دفعاً شعبياً كفؤاً ترتكز عليه مثلما تغذيه وتسنده. وهي إذا أجمع عليها، واجتمع لها عمل مشترك من أفراد المجتمع كافة. وهي إذا استلهمت في نموها الذات الثقافية العربية والإسلامية، وتجسدت قيمها الأصيلة، ووعت احتياجاتها وآمالها بدلاً من مجرد الانبهار بنماذج غربية أو شرقية دون الاستفادة بالصالح فيها. وهي إذا تحالفت مع وسائل الاتصال والإعلام من أجل بناء عزيز للوطن والمواطن. وهي إذا مدت بصرها واهتمامها إلى القطاع غير النظامي، أو غير المدرسي وأعطت أولوية لتعليم الكبار، وبخاصة الذين فاتتهم فرصة التعليم المدرسي. كل هذا مع مراجعة مدروسة لإدارتها، وبنائها، ومحتواها، وأدواتها، وتشريعاتها، وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وبخاصة مواقع العمل في المجتمع، ومع عزم على التحول من صناعة الكلام إلى بناء الإنسان. ومع إعادة النظر في اختيار المعلم، ودوره، وتكوينه، ومركزه المادي، والأدبي واستطاعت اصطفاء أقدر الناس على مزاولة هذه الرسالة العظيمة، واختارت لها حكماء ممن يحبونها شرفاً وعملاً - لا من يأخذونها وظيفة وراتباً - وداومت على تدريبهم وإثراء خبراتهم وتجديدها". - وهنا أدعو القراء الكرام إلى النظر في هذه الفقرة الأخيرة من فكر هذا المربي، والتأمل في مدى توافرها في كل، أو معظم من هم يقومون بالتعليم، ويديرون مؤسساته.. على أني اؤكد هنا أن بعضاً ممن هم على رأس العمل التربوي في بلادنا لديهم الحب للمهنة، والإخلاص فيها، والإبداع في أسلوب التعليم، والابتكار في أساليبه، لكنهم - مع الأسف - لا يمثلون الغالبية المنشودة. ثم يؤكد زميلنا مفاهيمه السابقة موضحاً: "إن مؤسسات التربية إذا أصابها، وأصابت كل ذلك أمكنها أن تضاعف من قدرتها على التغيير، وأن تصحح مسارها، وتعوض ما فاتها أن تقدمه لمجتمعها في عقود سابقة". ** ** ** وأقر بحكم خبرتي الطويلة أن قيادتنا السعودية لم تتوان يوماً واحداً عن الدعم والتأييد، وتوجيه الجهود، وتوفير المال لتطوير التعليم، والرقي به ليحقق الغاية النبيلة في إعداد الإنسان المؤهل للإسهام في تنمية بلاده، وهذا هو غاية إخلاص نظامنا السياسي للتربية والتعليم الذي ما بعده إخلاص. لكن القصور مرده إلى عناصر ورد ذكرها آنفاً في فكر ذلك التربوي المجرب. ** ** ** إن ما اقتبسته هنا من رؤى ذلك المربي إنما سبقها في كل الأحوال (إذا) ولربما احتج البعض على ذلك.. وإذا أخلصت... وإذا وجدت... وإذا استلهمت... وإذا تحالفت... وإذا أخلص لها... وإذا - أي مؤسسات التربية - أصابها وأصابت كل ذلك.. أمكنها.. نعم قد يحتج البعض على كل تلك الشروط.. ولكن الرد الواضح، هو القول: إنه يستحيل الحصول على نتائج تجربة لا تتوافر لها عناصرها. بل إن القاعدة الفقهية تنص على ما معناه: «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». بل إن ذلك قد تقرر في قانون إلهي لا يحيد (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). أي حتى يستوفوا الشروط التي تمكن من وقوع ذلك التغيير. ** ** ** ولربما تتغير أحوال مجتمع إذا استبدل أفراده كثرة كاثرة من مجرد الأداء اللفظي لقيم عديدة بالتركيز على الفضائل الأساسية تركيزاً عملياً.. يقوم الأبناء بتطبيقها أولاً بأول، وفي مواقعهم في الفصل الدراسي مع المعلم، ومع المدير، ومع زملائهم. ** ** ** ولقد سبق لي أن قلت وحاضرت، وكتبت حاثاً جميع فئات المربين، والمرشدين، ومديري المدارس، على وجوب هجر التلقين الببغائي إلى التطبيق العملي، وخاصة في الجوانب السلوكية.. كتبت لهم منهجاً نشرته عدة مرات قلت فيه: «لو أننا قمنا بتربية أبنائنا (تطبيقاً عملياً، وممارسة واقعية) على فضيلة واحدة في العام الواحد... فضيلة مثل الصدق.. وحشدنا لهم فيها كافة النصوص التي تحث على هذه الفضيلة في القرآن، والسنّة، وفي الأشعار، والقصص، والحكم من الشرق والغرب، والشمال والجنوب.. وقمنا بممارستها وتطبيقها على مدار العام كله. ثم خرجنا من ذلك العام بفضيلة واحدة يمارسها الطلاب فعلاً، ويحيونها عملياً في المدرسة، وفي الشارع، وفي البيت ويتمسكون ظاهراً، وباطناً، قولاً، وعملاً لأصبح مجتمعنا بذلك مجتمعاً مستقيماً صادقاً في عمله وقوله». ** ** ** ثم ينتقلون منها في سنة أخرى إلى فضيلة أخرى كالأمانة، والإتقان، والوفاء، والأثرة. وما إلى ذلك من قيم عظيمة، وسلوكيات نبيلة، مستمدة من ديننا الكريم النبيل. إننا لو خرجنا في نهاية المراحل الثلاث من التعليم العام مزودين باثنتي عشرة صفة أخلاقية كريمة لحقق ذلك تغيراً أخلاقياً جوهرياً في المجتمع. ** ** ** إني أدرك بحكم خبرتي وتخصصي ان قضيتنا التربوية أهم بكثير من قضية اكتساب المعرفة - إذ ان اكتساب المعرفة أصبح في وقتنا الحاضر مهيأً عبر قنوات عديدة، ولقد وجدت عند من هم في سن الطفولة كماً متراكماً من المعرفة التقنية اكتسبوها من خلال هذه القنوات غير المدرسية. ** ** ** وكما قال أحد الذين قرأت لهم وهو من المرموقين في عمله، وفي تأهيله العلمي في رسالة بعث بها إلى والده: «يا والدي: لقد كنت الرئيس الذي نوقن بصواب توجيهه، وتشعب معرفته، أما الآن فإني وجدت في ولدي مرجعاً لكثير من العلوم، لأنه يعرف من علوم العصر وتقنياته ما لا أحيط أنا به». وفي هذا إشارة جلية إلى أن دور المؤسسة التعليمية، وخاصة في مراحل التعليم العام قد تغير، وعليها أن تعنى بغرس قيم أخلاقية لا يمكن أن يكسبها المتعلم من الآلة كالكمبيوتر وما شابهه؛ وإنما من خلال المربي المؤهل والقادر. ولنا لقاء - آخر إن شاء الله تعالى - حول هذا الأمر. ** ** ** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها. اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد. (يتبع)