تغيير حرف واحد فقط سيجعل من عبارة تكرس للشوفونية وتورم الذات وتضخم الأنا، معنى أكثر إشراقة ونبلاً وأعظم إطلالة وفضلاً، اقرأ هذا البيت الذي كتبه شاعر شعبي: وش يذبح الرجال وعيونه تشوف إلا أقل الناس يأخذ مكانه تأمل ضمير الغياب في (مكانه) أنه يُعبِّر عن جنوح الشاعر إلى تنصيب نفسه حكماً يقضي بأفضلية ذاته وكمال عطائه، ووالله ما رأيت أظلم من شاهدين، شاهد لنفسه وشاهد عليها!! لكن تأملوا لو أن أحدنا أراد أن يلتمس قصداً آخر للشاعر أو يستبدل (حرف) الهاء الذي يمثل ضمير الغائب العائد على (الرجّال) بالتاء المربوطة ليكون الشطر: (..... إلا أقل الناس يأخذ مكانة) وستنطق (المكانة) بحكم الوقف الذي يهيمن على إيقاع القافية بالسكون مثلها مثل الكلمة الأولى، اللهم أن الأولى تعني (مكان + ه) مضاف ومضاف إليه، أي مكان الشاعر، بينما تكون (مكانة) المختومة بتاء مربوطة تكتب ولا تنطق بحكم الصيغة العروضية لتعني «المنزلة» والقدر والقيمة، وهنا سيخرج الشاعر من مأزق الذاتية غير المحبذة، والانتفاش بوضع (الذات) خير من (الذوات). ٭ الأمر الذي يشعله هذا البيت بمعناه الجديد هو أن هناك أناساً ليسوا ذوي قيمة في مشاهد متنوعة من ساحاتنا الإعلامية ومع ذلك تجد أنهم يجدون فرصاً كبيرة ليس للبروز والعطاء المتميز، ولا لأخذ مكانة على حساب الآخرين ولكن لأخذ مكانة يسيء من خلالها للمهنة والمعنى الوظيفي والجهة، بل وللوطن وسأذكر ثلاثة مشاهد ابتلي كل مشهد فيها بنماذج لا أقول إن حضورهم ضعيف ولا يضيف، أو إن مواهبهم ناقصة وعادية بل أقول إنهم فعلاً يشكلون أذى كبيراً للعين والأذن والعقل، وقبل أن استشهد بتلك المواقف أو تلك المشاهد سأقول بملء فمي إن الإعلام مسؤول بالدرجة الأولى عن هذا الابتذال وهذا الأذى الذي يرعاه على طريقة: إن كنت لا تدري فتلك مصيبة أو كنت تدري فالمصيبة أعظم وللأسف إن هذه المشاهد المؤذية موجودة في أكثر من إعلام، لكنني سأتخذ من الإعلام الرياضي المسموع والمقروء والمرئي أنموذجاً ودعوني أبرهن على حقيقة في الإعلام الرياضي بوجود نماذج تسيء لمناطق مضيئة فيه، وسأذكر شواهد على ذلك من مشاهد ثلاثة: (المعلقون + المراسلون + المحللون). ٭ أما المعلقون فإنك تأسف كثيراً على وجود مثل ذلك الذي لا يجيد إلا الزعيق والصراخ والتزلف والتنافر بين الحدث ووصفه إلى جانب عدم اتقانه للعبارات وعدم توظيفها توظيفاً صحيحاً. وأذكر مثلاِ على ذلك، معلق رياضي يردد هذه العبارة: (ينقل الكرة بكل أريحية). وهو يريد أن يقول (بكل راحة) ولا يعرف أن أريحية كلمة بعيدة كل البعد عن معناه وهي تعني سمو النفس والكرم والجود بلا حدود، وإذا كان لكل فن استعداد فطري وموهبة تنهض بأداء صاحبها فإن عدداً لا بأس به يجب أن يؤمنوا بأن تنحيهم لصالح المواهب الحقيقية أمر حتمي!! ٭ والمشهد الثاني يضم أولئك المراسلين الذين ظهروا على صور ثلاث: مراسل تلفزيون ينقل اللقاءات والحوارات بأسئلة غريبة وعقيمة أو أسئلة مكرورة لا تضيف شيئاً مثل (ما رأيك في فوز فريقكم؟) أو (كيف رأيت المباراة اليوم؟)!!! المراسل الثاني فاقد الموهبة الذي يعنى كثيراً بالصورة ونقل الصورة أكثر من نقل الحدث القيمة على شاكلة ذلك المراسل الذي يلاحق أحد المدربين الرافض لإجراء حوار معه وهو يرد (كاوتش أنا أحبك أنا أحبك). المراسل الثالث وهو أغرب المراسلين وأعجبهم وهو ذلك الذي يوزع وجهه في أكثر من شاشة ولا همّ له إلا أن تظهر صورته ولو كان واقفاً يمثل خلفية لحوار مع ممثلة أو إعلامية والأعجب أن يتباهى بأنه إعلامي ولا تجد له أي قيمة إعلامية سوى أنه يتفاخر كثيراً بأنه (صوّر) مع رونالدينو وصوّر مع (كاكا) وللأسف أن هذا النموذج الذي يظهر بشكل مبتذل ومسيء يظهر أيضاً متحدثاً بشكل مبتذل ومسيءويبدو ممثلاً للإعلام السعودي في المحافل العربية والخليجية لكنه تمثيل غير مشرف، والأعجب أن الإعلام يمهد لخروج مثل هذا النوع الضار، وآخرها خروجه على الهواء ليقدم دعوته بالذبائح والعشاء لطاقم البرنامج في ظهور لا قيمة له، وليس لدى هذه الشخصية لا ثقافة رياضية ولا معرفة بأبسط قوانين اللعبة، فلله الأمر من قبل ومن بعد.. أما المشهد الثالث والأخير فهو المحلل الرياضي، وهذا المشهد بلا شك هو أرقى المشاهد لكون أغلب المحللين من الكفاءات ولديهم قدرات علمية وفنية وثقافة رياضية. لكن قلة أبرزها الإعلام الرياضي وهي لا تدرك مقومات التحليل الثلاثة: 1- الجانب النفسي والمعنوي. 2- اللغة التعبيرية. 3- الوصف التقريبي. فالمحلل الذي لا يراعي الأجواء النفسية والأبعاد المؤثرة لوصفه وتحليله يقع في إشكاليات متوازنة، والمحلل الذي لا يجيد التعبير عن الحدث بلغة معبِّرة وموثرة لا يعقد علاقة حقيقية مع المتلقي والمشاهد، والمحلل الذي يطلق أحكامه على عواهنها ويتخذ أسلوب الحسم والحكم النهائي في وصفه يصطدم باكتشافه لحقائق مرّة. ٭ أعود فأقول إنني ضربت أمثلة على بعض المواقف التي لا أجد الإعلام الرياضي لدينا يواكب فيها نجاحات العمل الرياضي ولا يوازي نجاحه هو ذاته في مواقف أخرى، وضربت مثالاً على المشاهد المؤثرة في إعلامنا بالإعلام الرياضي وإلا فهذه الشخصيات وتلك النماذج موجودة في المشهد الثقافي والمشهد الفني، والمشهد الصحفي وغيرها، وعليه فإنني أستميح العذر من الشاعر المذكور أعلاه بأن يسمح لنا باعتماد التاء المربوطة في (مكانة) ليكتشف معنا ونكتشف معه بكل مرارة كم من (رجّال) «ينذبح» وكم من (رجّال) «يذبح».