في زمن جميل ومبهج ونقي إلى حد الصدق، والنقاء، والوضوح، كانت أحلامنا تكبر، ونضالاتنا في الحياة تتشكل، ووعينا يأخذ منهجيته، وقناعاته، وأحاسيسنا بالإنسان وعذاباته، وإحباطاته، وهزائمه، وأوجاعه تنغرس هماً داخل فهمنا، ورؤيتنا، وتحدد وظيفة الكلمة التي نمارس نزفها، فنحرص على أن نبتعد عن العبث، ونرفض الانتهازية، والوصولية، مستشعرين قداسة الحرف، ومسؤولية أن يقول الإنسان رأيه في الناس، والحياة، وصياغة المجتمع، وصناعة التنوير على قدر ما هو متاح لنا في تلك الأيام من إطلالات على الكتاب، وعلى التفاعل مع الوعي الثقافي والتنويري في العالم العربي، واكتساب تجارب، وثقافات نجهد كثيراً في الوصول إليها، والتعرف على مضامينها، وتوجهاتها، واستشراف أهدافها، ورؤاها. فقد كان الكتاب وقتها نادراً في المكتبات - وما أقلها - والإمكانات المادية متواضعة جداً بحيث لا يتاح لنا السفر، والبحث عن الكتاب إلا في زمن يتعدى السنة غير أن إصرارنا على المعرفة، وإثراء العقل بالثقافة والوعي جعلانا نرهق من يتاح له السفر إلى بيروت والقاهرة بقائمة منتقاة من العناوين. كان من بين هذا الجيل المناضل، الصديق السيزيفي صالح العلي العذل. شاب لديه مخزون كبير من الطموح، تعززه ثقافة واسعة معلمنة ومعقلنة، يملك لغة جميلة أخاذة، وعبارة مموسقة تحرضك على متابعته، وإحساساً مرهفاً بالإنسان وأوجاعه، وجراحاته فهو يريده كائناً له الحق في أن يعيش منفتحاً، خلاقاً، منتجاً. رافضاً لكل القيود الاجتماعية التي تفرضها بعض الموروثات من التقاليد والأعراف الاجتماعية التي تسربل مساراته. وتجعله كائناً منمطاً، مقولباً، غير قادر على تغيير مسارات حياته، وصناعة أقداره، وخياراته. كان صالح العلي العذل يكتب وقتها في جريدة «القصيم» الأسبوعية ينشر على صفحة كاملة مسلسل رواية اسمها «سمراء» كان القارئ يتابعها بشغف، وانبهار، وتدخل إلى أعماق وعيه ، وكان يكتب في نفس العدد مقالة أسبوعية ذات لغة رفيعة، ويلامس فيها قضايا متقدمة في الوعي، والفهم، والرؤية. ويكتب في نفس العدد مشاكسات، ومحاورات، ونقدات باسم مستعار يثير فيها الزملاء الكتاب في الجريدة ومنهم عبدالرحمن السدحان ليحرك ما هو راكد، ويثير من خلالها ردوداً، ومناقشات ثرية ومثرية. كان صالح تنويرياً بامتياز، يحمل همّ الثقافة والمعرفة. ويتمتع بقدرة على الاستماع والنقاش، وكان - ولا يزال - وديعاً، خلوقاً، مهذباً، ساحراً بلغته. دارت السنون «كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس...» وظل صالح العلي في ذهني صديقاً، وكاتباً رائعاً، أتمنى أن يعود إلى الحرف، وإلى الكتابة فالساحة في حاجة إليه كثيراً. بعد وفاة الرجل الإنسان الشريف عبدالله محمد الحقيل. قرأت صالح العلي العذل. لم يكن ما كتبه رثاء كان قطعة أدبية رائعة ومبهرة جعلت إيماناتي تترسخ وتتكرس بأن الحياة الثقافية فقدت مبدعاً. صالح، ألا تعود..؟؟ الغثاء، ومن يثيرون الشفقة أصبحوا كثراً. أنت ومن هم في وعيك الثقافي والإبداعي يجب أن تتحملوا مسؤولياتكم. أرجوك يا صالح أن تمارس رسم حرفك الجميل.