توثبات الأوطان، ورقي الأمم، وصياغة الإنسان تأتي كلها من خلال التعليم، ورؤاه، وأهدافه، واستشرافاته. التعليم ومفاهيمه، وخططه، وبرامجه، ومخرجاته هي المدماك الأول الحقيقي في عملية صناعة المستقبلات، وصياغة المسارات التي تؤسس لمجتمعات فاعلة قوية منتجة ومحصنة بمفاهيم الوعي، والفهم، والعقل، وممارسة فعل التنوير والإبداع والخلق، واستيعاب التحولات، والمستجدات التي تطرأ في العالم، وتمنهج رؤاه، وتقونن تطلعاته. فيتم إعداد الفرد من خلال مفاهيم، وأفكار تستشرف المستقبل، وتقرأ الحاضر، وتفهم دينامية التاريخ، والحراك الاجتماعي، والثقافي. ليكون الفرد قادراً وبصورة معقلنة على الانخراط في عملية البناء، والتحديث، والتفكير المعلمن، ملغياً التسطيح، والجهل، والخرافة، والأوهام من عقله، ليعيش كائناً مفكراً منتجاً، لا ملقَّناً مقولباً منمّطاً. والتعليم عملية شاقة، ومعقدة لا يمكن أن نضعها في دائرة فعل التنوير، وتكوين الإنسان، إلا إذا اجتازت كل الطرق والوسائل البائدة من تلقين، وحفظ، ومصادرة للفهم، والعقل، وتعطيل قدرات الإنسان السيكولوجية والبيولوجية وتحويله إلى كائن مسلوب حرية الرأي، والفكر، والرفض، والنقاش، والخروج عن فهم النصوص إلا عبر ظاهرها. ومن خلال ما يحلو للبعض تفسيرها، أو فهمها. وبالتأكيد فإننا لن نحصل على جيل مبهر بوعيه، عميق في ثقافته، مدرك للمسؤولية التاريخية تجاه الوطن، والتاريخ، والإرث الوطني، والمعرفي، والأخلاقي، إلا إذا استطعنا أن نُخرج التعليم من دائرة، ومفهوم العمل الروتيني الذي يعطي أوراقاً اسمها شهادات لجيل مسكين حوِّل إلى أوعية لحفظ النصوص، وترديد المقولات، واستظهار البلادة، أما العقل الذي هو حقيقة وجود الكائن، وتماهيه مع الإنتاج، والعطاء، وتقديم الفعل التنموي والحضاري والإنساني فهذا آخر اهتمامات التعليم، ويعتبر شيئاً لا يمكن ممارسة ترفه. تصوروا مدارس، ومعاهد، ومنشآت تعليم تخلو من المعامل، ووسائل التدريب والإيضاح، والتطبيق حيث تشرح النظرية العلمية على السبورة .. أما أن تكون النظرية وشرحها وتطبيقاتها في المعامل والمختبرات، فهذا عبث وترف وبذخ تعليمي. أيها التعليم، العالم يتغير سريعاً، سريعاً جداً.