كان النوم قد بدأ يداعب جفنيّ ، حين جاء دور مريضتي الاخيرة ، بعد يوم طويل وشاق ، ودخلت سهيلة ثم جلست لتحدثني عن مشكلتها التي اصبح كثير من فتيات المدن يشتكين منها ، فسهيلة تبحث عن صديقة تتخذها اختا لها ومستودعا لاسرارها ومستشارة في ما اشكل من امرها ، تقف معها في المصائب ،وتخفف عنها وقت الاحزان ، تضحك معها وتسامرها ، امينة ثقة صادقة ، تخرج معها او تعزمها ، وتحادثها بالهاتف ، تحتسي معها فنجانا من القهوة ، او تأكل معها وجبة خارج البيت ، تخططان معا لمستقبلهما ، وتشجعان بعضهما للمضي في حياة سعيدة !! **** لكن سهيلة تصيح بأعلى صوتها ( لقد بحثت عن انسانة بهذه المواصفات في المدرسة ايام الدراسة ، وفي المعاهد التدريبية ، وفي العمل ، بحثت عنها في بنات قرابتي ، وفتشت عنها في قرابة زوجي ، ولكني لم اجد الا صداقات من نوع اخر ، صداقات من النوع المؤقت ، تبنى في الغالب على مصلحة تنقضي ، او مزاج يتغير ، او رغبة في التغيير والتنويع ، واقبحها حين يكون المقصد لسبر اسرار الغير ومعرفة مكنونات القلب !! . سلام على الدنيا اذا لم يكن بها صديق صدوق صادق الوعد منصفُ فإن كان لك صديق عزيز يحبك كما تحبه ، فانت ذو حظ عظيم تحسد عليه ، حيث منحك الله نعمة كبيرة حرم الكثير من ابناء المدينة الحديثة منها ، فالصديق عملة نادرة ، اندر من وجود الغراب الابلق بين الغرابان ليس له ثان ولا ثالث ، فلا تستغرب حين ابدع العرب فعدوا الصديق الوفي من المستحيلات الثلاثة مع العنقاء المنبعثة من الرماد ، والغول الذي زعم تأبط شرا في شعره انه قد صرعه .. **** في الماضي كان تكوين الصداقة سهلا وميسورا ، بسبب التواصل بين الجيران ، وصلة الارحام بين الاقارب ، وقلة المشْغلات ، وغياب التقنيات ، وانعدام الاتصالات الحديثة ، وعدم طغيان المادية على القلوب والانفس ، فكانت الشهامة والامانة والعاطفة والديانة اصدق وانبل ، وبالتالي كانت الصداقة اسهل واقرب .. **** ربما اصبحنا مع الوقت متزمتين في شروطنا ومواصفاتنا ، فاصبحنا من حيث لا نعلم نطلب صفات وشمائل لا يمكن ان تجتمع في بشر مجبول على النقص ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا ان تعد معايبه فبعضنا يبحث عن صديق بمواصفات خيالية موغلة في المثالية المستحيلة ، فيريد صديقا تخالط روحه روحه فيفهمه من غير كلام ، ويساعده من غير طلب ، وان يكون له مرآة يرى فيها محاسنه وعيوبه ، يريده ان يعظه دون ان يلبس عمامة الواعظ ، وان ينتشله من همومه دون ان يلبس لباس الحكماء ، وان يضحي بنفسه من اجله دون ان يظهر بمظهر الشهداء ، يريده امينا كأبي بكر ، قويا في الحق كعمر ، صادق اللهجة كأبي ذر ، حليما مثل الاحنف ، كريما مثل حاتم ، وفيا مثل السموأل ، ومثل تلك التشدقات التي تتحدث عن كائن صبت فيه الفضائل الانسانية المتفرقة حينها نعرف اننا نتحدث عن كائن! هو اقرب الى خرافة العنقاء والغول ..