لا اعتراض أن يُقدم الجناة لمحاكم محلية أو دولية لأن العدالة مطلوبة، لكن المضحك أن العدالة لا يتساوى فيها الحكم على كل المجرمين، وحتى المحكمة الجنائية الدولية، أو محكمة العدل وغيرهما، استوفتا شروطهما من حيث التنظيم واللوائح القانونية، لكن خياراتهما لا تأتي دائماً في تقديم الجناة جميعاً سواء جاءت من قيادات دول أو منظمات أو هيئات أخرى، أو دول كبرى وصغرى.. مثلاً هناك مطالبات تلاحق الرئيس السوداني للقبض عليه ومحاكمته، وهنا تبقى الاجتهادات متوزعة بين جرائم الحرب بتهمته، بينما أنصاره يقولون إن اتخاذه إجراءات دموية إنما جاءت كي يحافظ على وحدة بلده التي هددتها أكثر من جهة بما فيها من ينادون بالقبض عليه.. وفي محاكمات المتورطين بقتل الحريري أمرٌ لا يعترض عليه أي منصف لأن الرجل ذهب ضحية جريمة كبيرة، وقبل ذلك عندما فرضت محكمة العدل الدولية تقديم مجرمي النازية والفاشية بما عُرف بمحاكمات (نورمبرج) والتي جاءت متوافقة والنظام الدولي، ومعها أيضاً محاكمات الخمير الحمر الذين كانوا أحد إفرازات التطرف الشيوعي، وكذلك ما يجري لزعامات الصرب.. لكن إذا كانت تلك القرارات ولدت في ظل ظروف دولية مختلفة، فقد سبق للاستعمار الأوروبي جرائم في كل القارات حتى إن زراعة الأوبئة في أمريكا الجنوبية من قبل الأسبان، وإجبار الصينيين على تناول المخدرات من قبل بريطانيا، ثم غزو فيتنام وما حدث من تدمير ومذابح من قبل القوة الأمريكية، وما قام به الاتحاد السوفياتي في ربيع براغ وغزو أفغانستان، لا توازيها ملاحقة تركيا بقتل الأرمن التي تحركها القوى في كل مرة تريد استفزازها، وهذا لا يعني تبرئتها، لكن هل قُدمت للمحاكمة تلك الدول تحقيقاً للعدالة ومساواة في الحقوق والواجبات؟ ونأتي لجرائم إسرائيل، وآخرها المشهد الدموي في غزة، حتى إنه أثناء الغزو كانت ترسانات الأسلحة المتطورة من أوروبا وأمريكا ترسل لها من خلال جسور جوية، ومع ذلك لم نشهد حتى الإدانة لجرائم بحر البقر وصبرا وشاتيلا وقانا، ثم غزة كآخر حبل في السلسلة الدموية، والعديد من الجرائم الأخرى.. وإذا كان قتلى الحروب والتطرف أمور متداولة ومتعارف عليها، فهل شركات الأدوية والكيماويات والتعمد بتلويث الفضاء، وإجراء تجارب على البشر ونشر الإيدز من خلال معامل دول تتحدث عن الالتزام بصيانة الحريات والحقوق، تدخل في جرائم الحروب الخفية؟حتى إن ما قيل عن فرضيات قتل أجناس معينة أو سلالات بشرية، ربما يكون جزءاً من حروب المستقبل البيولوجية.. القوة فقط هي الشرعية، وإذا ما فتحنا السجل التاريخي للجريمة فإن المحاكمات ستطال الامبراطوريات والممالك الكبرى، لكن إذا كانت الشرعية الدولية تريد بالفعل صيانة دم الشعوب وحمايتها من الاعتداء وسلب الأموال والاحتلال، فإن الاتهام سيطال زعامات ودولاً لا تزال تعيش بيننا، والمنطق يفترض أنه إذا كان العالم يسير باتجاه فرض العدالة، فإن القوانين يجب ألا تفصّل وفق احتياجات القوى الكبرى بحيث تكون الدول الصغرى هي ضحية هذه القوانين..