تشهد بلادنا في هذا العهد الزاهر سلسلة من التغييرات والتحولات التي تقتضيها المرحلة التي نعيشها وتفرضها طبيعة العصر ، ولا شك أن تلك التغييرات مهمة ولها دور كبير في فهم السياسة التي ينتهجها الملك عبد الله ورجاله المخلصون ، ومن الطبيعي أن التحولات ليست من صنع فرد أو أفراد بقدر ما هي قرار سياسي سلطوي يتولاه أعلى شخص في هرم السلطة ، كما تتولاه مؤسسات الدولة الرسمية التي أوكل إليها الملك تلك المسؤولية ، التغيير لا يعني تغيير أشخاص فقط ، بل تغيير العقليات وأنماط الإدارة والممارسة ، التحولات تعني محاولة فهم ماذا حققنا وماذا علينا أن نحقق ، التحولات تعني الإقرار بأنه ما من سبيل لتغيير ما أفسده الدهر بالنيات الحسنة ، بل بالاعتراف بالداء ومكمن الخلل ، وتوظيف القادرين على الإصلاح ، ولهذا فإن النجاح في هذا الأمر لا يتحقق بمجرد تغيير القيادات في قمة المؤسسة ، لأن من في القمة لا يستطيعون تحقيق الأهداف المرجوة مادامت بعض النماذج المتكلسة غير قادرة على التفاعل مع ما تمليه هذه التحولات ؛ لعجزها عن فهم طبيعتها وأهدافها ، وأعنى بهذه النماذج من هم في المراتب التي تلي المناصب العليا من مديرين وغيرهم ، فأولئك نادرا ما يطالهم التغيير ولهذا تبقى الأمور تراوح مكانها . تكمن إحدى إشكالياتنا في مثلث لن يقوم لأي تغيير أو تطوير قائمة دون أن يكون في رأس الاهتمام ، ذلكم هو المثلث الذي تمثل أضلاعه الظلم والمرض والجهل ، فهذا المثلث له علاقة وثيقة بكل المواطنين كبارا وصغارا ، فقراء وأغنياء ، ولا يوجد فرد من أفراد الوطن لا يمسه هذا المثلث بصورة أو أخرى ، ولقد أحسن الملك صنعا حين وضع الجهات التي لها علاقة بتلك الأضلاع الثلاثة على رأس الجهات التي نالها التغيير ؛ ألا وهي القضاء والصحة والتربية والتعليم المواطن عندما يُظلم ولا يجد من ينصره ، عندما تتعطل قضاياه سنوات وسنوات لأسباب قد لا نعرفها لكن لا ينبغي استمرارها والسكوت عليها ، مواطن كهذا كيف نرجو منه أن يؤدي عمله وأن يقوم بواجباته تجاه وطنه ؟ كيف يلبي حاجات أسرته ؟ كيف يربي أبناءه ؟ كيف يكسب عيشه وهو يشعر بالظلم والمرارة ، إما لعدم الإنصاف أو لتعطل قضاياه في أروقة المحاكم ؟ و في مقدمة من يعاني ذلك فئة النساء ؛ وذلك راجع لأسباب عدة يأتي على رأسها عدم قدرتهن على المطالبة بحقوقهن وانصياعهن لقرارات القضاة وعنف الرجال آباء كانوا أم أزواجا أم أقارب ، وانحياز بعض القضاة للرجل ضد المرأة ، ( ولعل أقرب قضية منّا ؛ قضية طفلة عنيزة التي رفض القاضي مرات عدة فسخ زواجها من الكهل الذي باعها أبوها له حتى تبلغ الطفلة ، ولم يعبأ القاضي بتوسلات أمها ولا بمطالبات محاميها ولا بالرأي العام الذي أصبحت الصحف تطلعه مباشرة على بعض ما يجري في المحاكم من ظلم للنساء على وجه الخصوص ) ! في هذه المرحلة الجديدة التي نعيشها يجب القضاء على هذه الممارسات المجحفة بحق النساء من قبل بعض القضاة وتحكيم الشرع الإسلامي لا غيره ، الذي يعطي الأب حق الولاية على الطفلة ، لكنه يمنع استغلال الولي ويفسخ ولايته متى ثبت إخلاله بها ، فهل لم يدرك القاضي ذلك ؟ وإذا كان يدركه ويغض النظر عنه ويصر على ظلم الطفلة ، وقهر أمها تواطؤاً مع طليقها ؛ فماذا نسمي ذلك ؟ إن منع الظلم وإقرار العدل والحق وإنصاف كل ذي مظلمة حق من حقوق المواطن ، كفله له الدين أولا وانتماؤه إلى دولة لها قوانين وأنظمة لا يجوز الإخلال بها ثانيا ، مواطن يعيش في كنف منظومة عصرية وليس في شريعة غاب ، له حقوق يجب ألا تُسلب منه تحت أي ّ ذريعة كانت ، وتلك معضلة كبيرة وشائكة يجب أن يتولاها أناس يضعون تحقيق العدل للمواطن في قائمة اهتماماتهم ، وعدم التواني في محاسبة من يخل به . ولهذا استبشر المواطنون للتغييرات في رأس مؤسسة القضاء والعدل. المواطن المريض الذي لا يجد له سريرا في مستشفيات بلاده ، المريض الذي لا مال عنده يدفعه للمستشفيات الخاصة ، المريض الذي لا ينتمي للقطاعات العسكرية ، ماذا يفعل والمرض ينهك بدنه أو بدن أحد أفراد أسرته ؟ كيف نرجو منه أن يكون مواطنا صالحا مخلصا والمرض يأتي على كل قواه ولا يجد حلا له ؟ إنّ تردي الخدمات الطبية في معظم مناطق المملكة أمر لم يعد خافيا على أحد ؛ كعجز المستشفيات عن استيعاب المرضى ، والنقص الحاد في بعض الأدوية ، وسوء وضع مستشفيات الصحة النفسية ، وتهالك مباني المستشفيات والمستوصفات الحكومية ونقص الكوادر الطبية ، وغير ذلك كثير ( انظر مطالب المواطنين من وزارة الصحة ، جريدة عكاظ 16 فبراير 2009 ) ، علاوة على استغلال العيادات والمستوصفات والمستشفيات الخاصة المواطنين ، برفع تسعيرة الكشف حتى بلغت في بعضها ثلاثمائة ريال ، ناهيكم عن أسعار الأشعة والتحاليل وغيرها ، كذلك ارتفاع أسعار الأدوية والمبالغة في أثمانها حتى لو كانت صناعة محلية ، خصوصا أدوية الأمراض الخطيرة التي قد لا يُصرف للمريض ما يكفي منها ( هذا إن استطاع العلاج في مستشفى تابع لوزارة الصحة ) ! هذه المعضلات التي تعاني منها وزارة الصحة وتنعكس سلبا على صحة المواطنين ، ينبغي معالجتها بكثير من الجدية والحزم ، واعتبار حلها حقا للمواطن بلا منة من أحد ، وفي هذا السياق يجب القضاء على الواسطة في التماس العلاج في المستشفيات كافة ، فماذا يفعل الذي لا واسطة قوية لديه ، ليكن كل المواطنين سواسية في الحق في العلاج لاسيما المصابون بأمراض مستعصية ، فلا يعقل أن يعالج مواطن أسنانه في مستشفى الملك فيصل التخصصي ، ومريض السرطان يعالج في مستشفى الشميسي ، ثم ما الذي يمنع من أن تكون مستشفيات وزارة الصحة في مستوى المستشفيات العسكرية والمستشفيات المتخصصة ، فالدولة وفرت لوزارة الصحة ميزانيات ضخمة كان ينبغي أن تجعل خدماتها في أرقى المستويات . ينبغي لإدارة وزارة الصحة الجديدة أن تنظر بجدية في تسعيرة المستشفيات الخاصة وتحديدها وتصنيف المستشفيات كما تصنف الفنادق ، فلا يجوز أن يتحول الطب إلى تجارة تستنزف جيوب المواطنين . المواطن الجاهل سواء من يجهل القراءة والكتابة ، أو من ينتمي لحقل التعليم تلميذا منتظما ، هل أدى التعليم دوره صحيحا وكاملا دون نقصان تجاه جهله ، يقيناً إن الجهل لا يعني الجهل بالأبجدية فقط ، بل يتعدى ذلك إلى عدم تفعيل آليات التعليم تفعيلا جادا من مناهج ومدرسين وتقنيات وبيئة تعليمية حقيقية ، الجهل هنا يعني الإصرار على إبقاء طرق التعليم التقليدية مسيطرة وهي الوسيلة الوحيدة التي يسلكها معظم المعلمين في عملهم لأنهم لا يتقنون سواها ، الجهل هنا يعني انصراف بعض المعلمين عن رسالة التعليم الحقة إلى أهداف أخرى أفرزت كل السوءات التي نراها ماثلة بقوة في التعليم ، مناهجَ ورؤىً ومخرجات ٍوغايات ٍ. أكد كثير من الفلاسفة والمفكرين على أن التحولات السياسية والثقافية مسؤولة في الدرجة الأولى عن تحديد هوية المجتمعات ، بما هي سلسلة متشابكة من الأطر التي ترسم ملامحها وتميزها عن مجتمعات وثقافات أخرى ، ولم يعد الازدهار الاقتصادي وارتفاع مستوى المعيشة كافياً للحكم على رقي المجتمع وتطوره ؛ بل لابد أن يصاحب ذلك تطور في الذهنيات القادرة على توظيف العامل الاقتصادي ووفرة المداخيل واستثمارها في ترقية الإنسان وبنائه بناء حقيقيا ، ليكون قادرا على بناء وطنه ورقيه وازدهاره .. وإذا كانت المشاريع الوطنية الكبرى تعتمد في بنائها على الثوابت التي تشرعن قوانينها وأطر إدارتها ، فإن تطوير تلك المشاريع، وتغيير آليات عملها ، يرتبطان ارتباطاً كبيراً بالتحولات الاجتماعية والثقافية للمواطنين بما هي نتيجة الانفتاح على العالم ، تلك التحولات التي أنجبت أفراداً لهم متطلبات لم تستطع أنماط العمل التقليدية الوفاء بها ، سواء ما كان منها في مستوى المنهجيات أم في مستوى تكوين الأفراد الذين يديرونها ؛ نفسيا وعقليا وثقافيا ، كل هذا يحتم سنّ التشريعات وبناء الخطط ووضع الاستراتيجيات التي تكفل توظيفها في التنمية الوطنية توظيفاً فعالاً . وسأقف عند بعض القضايا التعليمية التي أرى حتمية الاهتمام بها ومعالجتها معالجة جذرية ، ومنها على سبيل المثال : - الانطلاق في إصلاح التعليم من قطيعة معرفية مع الأفكار التي أفرزت مظاهر التشدد والغلو والتطرف ؛ والقطيعة المعرفية تعني إنتاج أفكار أو منظومات أو برامج عمل غير مسبوقة وغير مطروقة ، تختلف عمّا هو سائد فتقاطعه وتهيئ لاتجاه مغاير ، وهذه القطيعة المعرفية مع تلك الأفكار تحتم علينا العودة إلى منابع الإسلام الصافية الداعية إلى حرية التعبير وإحياء ملكة التفكير ، وإشاعة روح المحبة والتسامح ، وبعث روح الإبداع والفكر الخلاق ، والنهل من مناهل العلم أياً كان مصدره ، والتخلص من حمولة الفكر التقليدي ، ومحاربة مظاهر الاستبداد والغلو والتطرف والهيمنة باسم الدين ، وفض الاشتباك الحاصل بين ما هو حلال وما هو حرام ، وبين المقدس وما ألبس لباس القداسة وما هو منها ، وهو ذلك الاشتباك الذي أفسح المجال لاجتهادات شوشت كثيراً من المفاهيم التي ما زالت عالقة في الأذهان. - إشراك المختصين في التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس والإدارة والسياسة بقراءة الخطاب التعليمي الموجه للطلاب ذكورا وإناثا ، بتسليط آليات النقد عليه وتفكيك بناه التركيبية وإلغاء هالة التقديس التي تُضفى عليه ، كلنا يدرك أن فاقد الشيء لا يعطيه ، وهنا يجب إبعاد العقليات المهترئة التي هيمنت على برامج الإصلاح ولم نر إصلاحا بل تسويفا طويل الأمد ما زلنا نحصد عواره ، وفي المنحى نفسه يجب إعادة النظر في المؤسسات والأشخاص الذين أوكل إليهم تطوير التعليم ومناقشتهم فيما فعلوه وبمن استعانوا وكم صرفوا على خططهم حتى الآن وأين وصلوا ، متابعة هؤلاء ومساءلتهم قضية في غاية الأهمية كسبا للوقت وحفاظا على ما خُصص لبرنامج التطوير من مبالغ طائلة يجب أن تصرف فيما وضعت له . - الاهتمام ببناء المعلم الذي يواجه في هذا العصر تحديات كبيرة ؛ تتمثل في التطور التكنولوجي ووسائل الاتصال ، وتغير فلسفة التعليم مما يجعل إعداده عملية معقدة وطويلة ينبغي أن تستمر حتى وهو على رأس العمل ؛ تدريبا وتطويرا لأدائه وأدواته ، ليلاحق هذه التطورات ويتمكن من مواجهة التحديات ، ويكون في مستوى ذهنية الطلاب التي بدأت هي الأخرى تتطور وتأخذ في التشكل تناغما مع العصر وتقنياته ، فلم تعد التربية تنظر إلى المعلم نظرة الملقن للمتعلمين بل ترى فيه الموجه والمرشد والمصمم للمنظومة التعليمية داخل قاعة الدرس ، بما يقوم به من تحقيق الأهداف الخاصة بالدرس ، وتنظيم الفعاليات والخبرات ، واختيار أفضل الوسائط لتحقيق الغايات التربوية والوطنية الكبرى . يقول أحد المفكرين : ( لا يكفى أن يكون لك عقل ممتاز ولكن الأهم أن تستعمله استعمالا جيدا ) ، فمقدار ما يُستخدم من الدماغ هو ما يسمى عقل الإنسان ، فالدماغ شيء مادي وأما العقل فهو الجزء المستخدم من الدماغ في عمليات التفكير والتعلم والابتكار ، وهذا يعني إعمال العقل فيما يتلقاه الدارس ، سعيا لحل المشكلات وطرح الأفكار المختلفة والتساؤل والنقد والتحليل ، وغير ذلك من العمليات الذهنية ، و تحقيق هذا يعني القضاء على الجهل قضاء مبرما . - العمل على بثّ ثقافة الحبّ بين كل المنتمين إلى التعليم ، حبّ الحياة وحبّ الوطن وحبّ العمل وحبّ الخير وحبّ الناس أجمعين ، علموهم أن الله خلقهم ليعمروا الأرض بالعبادة وبالعمل والحب والعطاء المثمر، فلم يخلق الله الإنسان ليكون أداة شرّ وسلاح تدمير، لم يخلقه ليعيش منطويا على نفسه كئيبا خائفا مرتعشا من الحساب والعقاب ، مفكرا بالموت وعذاب القبر، وكارها الدنيا والناس أجمعين، لقد أمره الله أن يكون متوازنا لا مشدودا إلى الدنيا كلية ولا إلى الآخرة أيضا . ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) . إننا حين نحسن الظن ونسلّم ببراءة الكتب الدراسية من التحريض على التشدد ، فإننا لم ولن نسلم ببراءة المنهج الموازي أو الخفي ( Hidden Curriculum ) الذي يعرّفه التربويون بأنه : تلك الخبرات التي يكتسبها الطالب نتيجة معايشة أفكار وثقافات مختلفة في بيئة خاصة ، ويتضمن كل الأنشطة التي لم تنصّ عليها مفردات المنهج المعتمد. مما يعني أن هناك وسائط أخرى غير المقرر الدراسي تتولى هذه المهمة التي يقوم عليها حزبيون مؤدلجون يتولون شحن عقول الطلاب بما يريدون عبر الأنشطة اللاصفية والأشرطة السمعية والبصرية (الكاسيت والفيديو) والمطبوعات المقروءة من كتب وكتيبات ومنشورات ، إضافة إلى المحاضرات والندوات والدروس والخطب والأناشيد . - إطلاق عقول الشباب نحو فضاءات أرحب وأوسع ؛ بتحريرها من قيم الخرافة والدجل والتغرير، فلو أعمل المنحرفون عقولهم فيما تلقوه من فكر الإرهابيين لما انساقوا إليهم طائعين، لكنهم لم يعتادوا على إعمال العقل وشحذ ملكة التفكير وتسليط آليات النقد على ما يلقى إليهم. - تنويع الأنشطة المدرسية والخروج بها من الأنماط التقليدية التي ظلت مهيمنة على الأنشطة الطلابية طوال عقود ، الجو المدرسي في المدارس الحكومية شديد الكآبة وهو في مدارس البنات أشد منه في مدارس الذكور، تنويع لأنشطة يقضي على الرتابة والنمطية ويضع حدا للملل الذي يعتري الطلاب والطالبات ؛ إذ يشعرون أن النشاط امتداد للدروس ، يجب أن نفتح عيونهم وعقولهم على الجمال وحب الحياة وما فيها من مظاهر البهجة والفرح ، من فنون تشكيلية ومسرح وموسيقى وغناء ، فما الذي يمنع من بث الأغنيات الوطنية كما في أوبريتات الجنادرية التي تتغنى بالوطن؟ لماذا تمنع الموسيقى والغناء في المدارس في حين تبث من الإذاعة والتلفاز الحكومي ؟ هذه الأجواء الصارمة التي تفرض عليهم هي التي تشعرهم بالضيق والحرمان مما يباح لغيرهم ، بل تجعل بعضهم يبحثون عن البديل الخطير كالجلوس في المقاهي والذهاب إلى الاستراحات خارج المدن ، والسير في الشوارع والطرقات بلا هدف ، ومتابعة القنوات الهابطة بما تعرضه من أفلام وبرامج ساقطة . تنويع الأنشطة يجب أن يشمل الذكور والإناث ؛ فلا ينبغي خصّ الطلاب بأمور تمنع عن الطالبات فلا شيء يمنع من أنشطة مماثلة لهن ما دامت تجري في أجواء نسائية خالصة .