بكيت الحريري مرة وبكيت لبنان ألف مرة، بكيت طرقه وجباله وينابيعه ومحلاته، بكيت المكتبات والنقاش الأدبي ورحبانيته وفيروزه. من قتل الحريري، ومن لم يقتله، ومن يستفيد من قتله ومن أراد أن يشعللها بعد قتله.. ومن يقتله باليوم ألف مرة؟ تتقاطر علامات الاستفهام وتبقى معلقة، رغم اتجاه إصبع المعارضة لسوريا، وكأنها ذئب إخوة يوسف. وقميص الحريري المحروق يتمزق بين المكابرين والمستفيدين والمسوقين وسماسرة أزمات ومصائب.. ولبنان يدخل لسوق البيع والشراء، فرنسا تريد من لبنان موزة مقشرة تراضي بها غضب أمريكا بعد غزوها للعراق.. وأمريكا تريد من قميص الحريري عزلاً لسوريا تمهيداً لصلبها.. وتكرر سيناريو العراق.. لنتأمل ماذا فعل بالعراق منذ البداية ونقارنه مع ما يفعل بسوريا.. أولاً نفخ بصدام حسين وبموارده وعقول شباب العراق وعلمائه لدرجة نفخ كثير من العرب صدورهم بما في العراق.. ثم تم تقطيع اتفاقية الجزائر، وكرت السبحة المعروفة ، حرب مع إيران ووقوف الدول العربية كلها مع العراق، وقد تعجب البعض كما تعجبت كيف لا يرى العرب أبعد من أنوفهم، وراحت من عمر العراق سنوات التنمية وجاءت سنوات الموت والدمار لكلا البلدين، وأغلقت بوابة شرقية في وجه العراق، كما أن الشمال يتأجج بحرب التمرد الكردي الذي يتغذى ويكبر. ولم تكد تتنفس العراق حتى بدأت مشاكلها مع الكويت وكانت الطعنة التي لا زالت تنزف، وأغلقت بوابة الجنوب، ومعها الشرق والغرب، وهكذا قطع الدم عن العراق ومع العقوبات كان العراق يذوي كل يوم حتى جاءت الحرية والديمقراطية الأمريكية لتفتح باب جهنم الذي لن يغلق ولتجعل من أيام العراق كربلاء متصلة.. السيناريو نفسه مع سوريا، إسرائيل تحتل جولانه، والأردن على علاقات طيبة مع إسرائيل، تركيا مهما كانت لن تقف في وجه أمريكا ولن تمنع استعمال القواعد الأمريكية.. بقي لبنان، ولبنان كما قلت موزة تقشرها فرنسا لتأكلها أمريكا ومن ثم تبتلع سوريا. الجيش السوري الذي دخل للبنان وبطلب عربي ومباركة أمريكية، أصبح هو الاحتلال الذي يجب أن تتخلص منه لبنان، والذي تدعو أمريكا لجلائه عن لبنان، ولكن جيش يدمر بلداً وتأتي جيوش بلا طلب دولي ولا حكومي، يقتل ويمزق وينشر الرعب والدمار كل يوم هذا شيء لا يحكى ولا يناقش، ولا يناقش أيضاً احتلال إسرائيل لمزارع شبعا ولا لفلسطين ولا للجولان. نبكي الحريري مرة ونبكي لبنان ألف مرة ونبكي معها سوريا عشرات الآلاف من المرات.. الثور الهائج يسير والناس توسع له الطريق، وتقدم له العلف وتقول من هنا تفضل، فالبعض يطلب وصاية دولية والبعض يطلب قوات أجنبية والمعارضة تستنهض الشارع ليقلب الحكم، والسنة ترفع لهم أياد خبيثة القميص المحروق لينتقموا من السلطة ومن سوريا وقريباً يدخلوا البعض لحساباتهم.. وهنا يحترق لبنان وتحترق سوريا معا وهما كلاعب السيرك والحبل كل منهما يعتمد على الثاني. لماذا رفيق الحريري، الرجل السمح الذي دخل المعارضة لا من أجل المعارضة ولكنْ بلد ديمقراطي تبادل السلطة تعني من ليس بالسلطة فهم في المعارضة، ورفيق نفسه قال انه يدخل المعارضة لتقليل سقف المعارضة للوجود السوري، ومن هنا يكون وضع الحريري كوضع رئيس وزراء السويد الذي قتل لأنه كان ضد الحرب العراقية الإيرانية وكان بصدد الحيلولة دون استمرارها، فأكلته آلة الحرب، كما أن قتل الحريري لا يبعد عن قتل رئيس وزراء السويد، وقد لا يبعد عن قتل كندي، ولا عن من أسقط طائرة همرشولد. الأمر لا يحتاج شارلوك هولمز. فقط نحتاج لا للتلويح بالقميص المحروق لكن للتأكد من حارق صاحب القميص، قبل أن تحرق سوريا ولبنان بحرب أهلية أخرى.. من حرق ذاك العصامي الذي بنى دولة محرقة؟