أبان عدد من المشايخ المخالفات التي يقع فيها بعض الأبناء تجاه الأبوين وما يترتب عليه من عقوقهما، وأشاروا إلى أن البر بالوالدين من أوجب الواجبات ومن أهمها أنهما اللذان عملا على تربية الابن والقيام عليه حتى ترعرع ونشأ النشأة الصالحة لكن بعض الشباب يجازي هذا الاحسان بالجحود فإلى التحقيق: ٭ يقول تركي بن راشد العبدالكريم - خطيب جامع الشيخ عبدالعزيز الرشيد - رحمه الله بالرياض - أكد الإسلام بادئ ذي بدء على العمل بالبر والاتصاف بالاحسان بين أفراد الأسرة، إذ هي اللبنة الاولى للمجتمع، فبصلاح أفرادها وتآلف أبنائها يسعد المجتمع بأسره، ويشع في أرجائه الأمن والاطمئنان، والإخاء والسلام. ولذا أوجب الإسلام القيام بالبر والإحسان إلى الأقارب والأرحام، وجعله من آكد الحقوق وأعظم الواجبات، وآكد هؤلاء حقاً في الإحسان اليهم، والاعتناء ببرهم الوالدان، إذ ليس أعظم إحساناً على المرء، ولا أكبر فضلاً عليه بعد المولى عز وجل منهما، ففضلهما على الاولاد جليل، واحسانهما اليهم كبير، ولذا عظم المولى سبحانه حقهما، وقرنه عز وجل بحقه في العبادة واخلاص الدين له وحده دون سواه، فقال تعالى: {وأعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسناً} (النساء: 36). كما أوجب الحق سبحانه شكر الوالدين بعد شكره اشعاراً بعظيم حقهما، وتأكيداً على جليل فضلهما، فقال سبحانه: {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير (14)} - (لقمان: 14). قال حبر هذه الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث، لا تقبل واحدة بغير قرينتها، وذكر منها قوله سبحانه: {أن اشكر لي ولوالديك} - (لقمان: 14)، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين». إن البر بالوالدين من آكد الحقوق، وأعظم الواجبات، وطاعتهما من أفضل القرب والطاعات، لما لهما من فضل كبير وإحسان عظيم، لقد رعياك أيها الولد في حال الصغر، وتحملا من أجلك الشدائد والآلام، وبذلا ما في وسعهما في سبيل تربيتك واسعادك دون أدنى تحفظ أو تردد، حملتك أمك وهناً على وهن، حملتك كرهاً، ووضعتك كرهاً، ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً، حتى يبلغ بها الحال أن ترى الموت مما تقاسيه من الآلام والأوجاع، فإذا خرجت إلى هذه الدنيا سليماً معافاً، نسيت من أجلك آلامها، وعلقت فيك آمالها، ثم شغلت نفسها بخدمتك ورعايتك في ليلها ونهارها، طعامك درُّها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها، تجوع لتشبع، وتسهر لتنام، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة، أما والدك فهو يكد ويسعى، ويتحمل الأعباء والمشاق من أجل اسعادك، وتهيئة حاجاتك ومتطلباتك، ينفق عليك ويرعاك ويوجهك إلى ما ينفعك ويرفعك، يسر لفرحك ويتألم لأحزانك، ويدفع عنك صنوف الاذى، ويحميك بإذن الله من الضياع والردى، فهذا شيء من إحسان الوالدين وبرهما، فهل جزاؤهما إلا البر والإكرام {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (60)} - (الرحمن: 60)، إن حقهما على الاولاد من البنين والبنات الإجلال والتقدير، والطاعة والتوقير والتواضع لهما، وحسن الأدب معهما، لين في الكلام، وتلطف في الحديث، وخفض للجناح وتحقيق لرغباتهما، وتلبية لحوائجهما، وطاعتهما في المعروف، ومسارعة لخدمتهما، وكسب لرضاهما في كل وقت، وعلى كل حال، وإن البر بالوالدين ليس بتأمين الحوائج المعيشية ومتطلبات الحياة المادية فحسب، مع الإعراض عنهما، والانقطاع عن زيارتهما وعدم صلتهما. إن من المؤلم حقاً أن يفاجأ الوالدن بالعقوق، والتنكر للجميل، وجحود الفضل والإحسان من فلذات الأكباد، فما أقسى ذلك على نفوسهما، وما أشد مرارته على قلوبهما. إن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب والمعاصي، انه عار وشنار على صاحبه، وسبب للشقاء والكدر في الدنيا، والعذاب الأليم في الاخرى، عجباً لمن يعق والديه حينما احتاجا اليه، ولمن ينصرف عن رعايتهما بعد ما ضعفا والتجآ إليه، أيكون جزاء احسانهما الإساءة، وبرهما العقوق والقطيعة، وعطفهما القسوة والغلظة، أليست الجنة تحت أقدام الوالدين، وأن من بر والديه بره بنوه، ومن عقهما عقه بنوه جزاء وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد، جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء الا عقوق الوالدين، فانه يعجل لصاحبه قبل الممات». وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر احدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة». ٭ ويقول الشيخ تركي بن عبدالله الغامدي - امام وخطيب جامع عمار بن ياسر - لاشك أن بر الوالدين من أعظم القربات وأجل الطاعات ويكفي في فضل ذلك أن الله جل وعلا قرن حقهما بحقه كقوله تعالى: {وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا}. ثم إن الأمر ببرهما جاء مطلقاً عاماً إلى درجة انه يجب برهما حتى في حالة كونهما مشركين ويأمران بالشرك. قال الله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي شيئاً فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا}.. بل تأمل عظيم ثواب البر وانه من ابواب الجهاد في سبيل الله قال صلى الله عليه وسلم:«ففيهما فجاهد» لما اراد رجل أن يجاهد في سبيل الله فأمره أن يجاهد ببر الوالدين. وحذر الله من العقوق مهما ظن الإنسان صغر الأمر فقد حرم الله قول كلمة أف لهما في قوله تعالى {فلا تقل لهما أف ولا تنهمرهما وقل لهما قولاً كريما} هذا في كلمة أف فما بالك في أعظم من ذلك مما نشاهده ونسمعه اليوم من بعض فئات المجتمع. وإن من البر صلاح الأبناء واستقامتهم على الطاعة فهو ذخر للوالدين احياء وأموات. وان ما يجدر التنبيه اليه أن دعوة الوالد لولده أو على ولده مستجابة فعلى الآباء ان يحذروا من الدعاء على ابنائهم وعلى الأبناء الحذر من التعرض لمثل ذلك. ٭ اما الدكتور عادل العبدالجبار فيقول: لا يقل حق الأب أهمية وجلالا عن حق الأم، فهو يمثل الأصل والابن هو الفرع، وقد أمضى حياته وشبابه وأفنى عمره بكد واجتهاد للحفاظ على أسرته وتأمين الحياة الهانئة لأولاده، فتعب وخاطر واقتحم المشقات والصعاب في هذا السبيل، وفي ذلك يقول الامام زين العابدين: «وأما حق أبيك فتعلم انه أصلك وأنك فرعه، وانك لولاه بعد الله لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، واحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا بالله». يكون بر الوالدين في حياتهما بطاعتهما في المعروف. وموافقتهما فيما يريدان في غير معصية الله. والاتفاق عليهما ان كانا محتاجين. والإحسان والاهداء اليهما إن كانا مكتفين. وعدم التعرض لسبهما. ولا يحدّ النظر اليهما. ولا يمشي أمام أبيه إلا في الظلمة. ولا يقعد قبله. ولا يدعو أباه باسمه. ويتكلم معهما بلين وتلطف، ولا يرفع الصوت عليهما. أما بر الأبوين بعد وفاتهما فيكون بالدعاء والاستغفار لهما. وقضاء ما عليهما من دين لله أو للآدميين مثل أن يحج ويعتمر عنهما إن لم يحجا ويعتمرا، واخراج الزكاة عنهما إن وجبت عليهما وحال عليها الحول. وتنفيذ وصاياهما والتصدق عنهما. وصلة أرحامهما. وأهل ودهما. لقد وعد الله البارين بآبائهم وأمهاتهم بالخير الكثير والفضل العميم في الدنيا، والثواب الجزيل والأجر الكبير في الآخرة. ولو نظرنا في أحوالنا لوجدنا التقصير الشديد في بر آبائنا وأمهاتنا، ولربما وقع من البعض العقوق، نسأل الله العفو والسلامة. وعقوق الوالدين له صور عديدة ومظاهر كثيرة قد تخفى على بعض الناس، ومن ذلك: أن يترفع الابن عن والديه ويتكبر عليهما لسبب من الأسباب، كأن يكثر ماله، أو يرتفع مستواه التعليمي أو الاجتماعي ونحو ذلك. ومن العقوق أن يدعهما من غير معيل لهما، فيدعهما يتكففان الناس ويسألانهم. ومن العقوق أن يقدم غيرهما عليهما، كأن يقدم صديقه أو زوجته أوحتى نفسه. ومن العقوق أن يناديهما باسمهما مجرداً إذا أشعر ذلك بالتنقص لهما وعدم احترامهما وتوقيرهما. وغير ذلك. قد يتجاهل بعض الناس فضل والديه عليه، ويتشاغل عما يجب عليه نحوهما، ألا يعلم ذلك العاق أو تلك العاقة أن احسان الوالدين عظيم وفضلهما سابق، ولا يتنكر له إلا جحود ظلوم غاشم، قد أغلقت في وجهه أبواب التوفيق، ولو حاز الدنيا بحذافيرها؟.. فالأم التي حملت وليدها في أحشائها تسعة أشهر، مشقة من بعد مشقة.. لا يزيدها نموه إلا ثقلا وضعفاً. ووضعته كرهاً وقد أشرفت على الموت، فاذا بها تعلق آمالها على هذا الطفل الوليد، رأت فيه بهجة الحياة وزينتها، وزادها بالدنيا حرصاً وتعلقاً، ثم شغلت بخدمته ليلها ونهارها، تغذيه بصحتها، وتريحه بتعبها، طعامه درّها وبيته حجرها، ومركبه يداها وصدرها، تحوطه وترعاه، تجوع ليشبع وتسهر لينام، فهي به رحيمة، وعليه شفيقة، إذا غابت دعاها، وإذا أعرضت عنه ناجاها، وإن اصابه مكروه استغاث بها، يحسب أن كل الخير عندها، وأن الشر لا يصل إليه إذا ضمته إلى صدرها أو لحظته بعينها. أما الأب.. فالابن له مجبنة مبخلة.. يكد ويسعى، ويدفع صنوف الاذى بحثاً عن لقمة العيش لينفق عليه ويربيه، إذا دخل عليه هش، وإذا اقبل عليه بش، وإذا حضر تعلق به، وإذا أقبل عليه احتضن حجره وصدره، يخوف كل الناس بأبيه، ويعدهم بفعل أبيه، أفبعد هذا يكون جزاء الأب التنكر والصدود؟ نعوذ بالله من الخذلان. إن الاحباط كل الاحباط أن يفاجأ الوالدان بالتنكر للجميل، وقد كانا يتطلعان للإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف، فاذا بهذا الولد - ذكراً أو أنثى - يتخاذل ويتناسى ضعفه وطفولته، ويعجب بشأنه وفتوته، ويغره تعليمه وثقافته، ويترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفف والتبرم، ويجاهرهما بالسوء وفحش القول، يقهرهما وينهرهما، يريدان حياته ويريد موتهما، كأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين، تئن لحالهما الفضيلة، وتبكي من أجلهما المروءة.