اختلطت الأصوات بتلاوة المصلين.. وأخذت تخفت شيئا فشيئا.. الى ان تلاشت جزئيا.. وأصبح لا يسمع منها الا همسا.. وعاد السكون مجدداً مصطحباً معه برودة محتضنة دفء الصباح وعتمة ليل حالك تنتشر فيه خيوط المصابيح المضاءة. هناك على احد الأبواب في أقصى الزاوية.. بعد أن أخذ كل شخص مكانه.. جلست على تلك الصخرة ذات المعالم الإسلامية أستمع لحديث احدى الأخوات.. لم يكن بالحديث الشيق.. كان عبارة عن قصة، نصح، إرشاد، لكني كنت أصغي اليها باهتمام فأسلوبها الجذاب.. وروعة السكون.. وجمال الليل.. جعلوا مني أسيرة لديها.. مأخوذة بدقة التفاصيل. قطع حديثها امرأة أرادت أن تدخل المكان المكتظ بجموع المصلين عنوة.. فأسرعت اليها لترشدها الى مكان آخر قد تجد فيه ثغرة تأوي جسدها النحيل جداً تجولت في بصري الى أبعد مدى قد يصل.. إليه. السماء.. الأرض.. الأفق.. الزوايا.. وحتى ذلك الكأس الورقي تابعته لأرى أين يستقر به الحال تحت وطأة نسمة هواء باردة تدفعه هنا وهناك لينتهي به الأمر بين الصفوف. وعلى امتداد البصر.. رأيت جداراً يحيط به سور أمعنت النظر.. اقشعر جسدي وتحرك لساني بثقل شديد.. (السلام عليكم دار قوم مسلمين أنتم السابقون ونحن اللاحقون غفر الله لكم وسقاكم بالماء والثلج والبرد) انه بقيع الغردق.. مقبرة المسلمين هناك يرقد ملايين البشر.. هناك يرقد أبي.. كنت بمثل هذا الوقت أستيقظ على صوته يردد "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" وهو يتوضأ استعدادا لصلاة الفجر.. اه يا أبت.. من لهذا الحنين من يحتضنه؟ من لهذه الأشواق من يطفئها؟ من لي؟؟ بدأت الوحدة تتسرب الى نفسي.. تتوغل في روحي.. تقتلعني من جذور الماضي بين لحظة ألم وصحوة حنين جارف.. أشهق بأنفاس أنفاسي.. أتجرع مرارة الفراق هنا لوحدي.. وصوت الخوف يزمجر في كل مكان.. ومدامع الألم تنحت من قلبي بيوتاً لتبقى حيث لا أمان.. ليس لشكي يقين.. وليس ليأسي أمل.. ولست أنا.. أنا.. أحاسيس متضاربة بين الوجود واللاوجود.. نعم أنا من يكتسحني على هذه الصخرة سيل الدموع المنهمر شيئاً فشيئا خلف نظارة أستعين بها على ضعف بصري.. انعدمت الرؤيا لدي وأصبحت كل الصور منكسرة.. تتراءى لي بأشكال مفزعة.. وأنا غارقة في تلك المعمعة.. مبعثرة هنا وهناك أحاول أن اجمع بقاياي تيقظت لخطوات تلك الأخت وهي تشق طريقها إلي.. وقبل أن تصل.. نهضت من مكاني مسرعة.. أسدلت الغطاء على وجهي.. وأشرت اليها بيدي استسمحها عذراً بالمغادرة.. أدرت ظهري للمكان.. تجر خطواتي أذيال الألم المميت.. وأنا أردد خلف النداء.. الله أكبر.. الله أكبر.. أذان الفجر.. أول خيوط الصباح وبداية يوم جديد انقشعت ظلمته من أمام باب تسعة وعشرين. همسة (كالعادة أغرق طويلاً في بحر الذكريات.. توقظني دمعة ساخنة تنحدر من محجري.. تنتهي باستامة ساخرة ونظرات عشوائية لا تستقر في أي مكان،، تتساءل نظرات بألم شديد.. اين هم؟؟ تجيبها ابتسامتي الساخرة بحذر شديد (مشي حالك). @ المدينة المنورة