قرأت في طفولتي قصة عن مزارع إنجليزي قرر الهجرة إلى الغرب الأمريكي بحثاً عن فرصة حياة جديدة. وأثناء رحلته مر بأرض واسعة خصبة نالت استحسانه لدرجة قرر الاستقرار فيها ونسيان كاليفورنيا. ولكن ما ان انتهى من بناء كوخه حتى أحاط محاربو الهنود الحمر وأمروه بالخروج من أرضهم. وعلى الفور سحب بندقيته ووجهها لزعيم القبيلة مهدداً بقتله - فرفع الهنود بدورهم سهامهم نحوه.. وللخروج من هذا المأزق اقترح رجل هندي مسن حلاً وسطاً.. فقد اقترح ان يسير الرجل الأبيض على قدميه في أي اتجاه يريد ثم يعود من حيث بدأ قبل غروب الشمس. والمسافة التي يستطيع قطعها يستطيع أخذها بموافقة القبيلة.. أما ان لم يستطع العودة قبل غروب الشمس فيحق للقبيلة الاستيلاء على كوخه وحصانه وأخذ زوجته وأطفاله! ولأنه يتمتع بصحة جيدة - وثقة شديدة بالنفس - لم يجد المهاجر الإيرلندي مانعاً من كسب مساحات جديدة وشاسعة (بمجرد المشي فوقها). وهكذا بدأ من فوره بتنفيذ الاتفاق وأخذ يسير باتجاه مغرب الشمس. وخلال فترة بسيطة قطع مسافة كبيرة جعلته يضحك في سره على أولئك "الأوباش" الأغبياء. وبعد ساعات من المشي بدأ يشعر بالتعب ولكنه تنبه إلى وجود هضبة مناسبة لزراعة القمح فمشى نحوها وأحاط بها. وحين قرر العودة رأى سهلاً مناسباً لرعي الأبقار فمشى حوله واحاط به. وحين وصل لنهايته شاهد نهراً غزيراً قرر ضمه لمزرعته فقطعه سباحة رغم برودته الشديدة. وحين وصل إلى الضفة الأخرى نظر باتجاه الشمس فوجدها تغرب في عين حمئة فتملكه الرعب فعاد وقطع النهر سباحة من جديد. وحين نظر باتجاه عائلته كان الهنود ما يزالون في مكانهم ولكنهم بدوا بعيدين جداً. ورغم تعبه الشديد وارتجافه من البرد بدأ يركض ويركض ويركض لعله يصل قبل غروب الشمس.. ولكنه في النهاية سقط ميتاً من الاجهاد والتعب وكان آخر ما رآه الهنود الحمر وهم يحرقون كوخه ويأخذون زوجته وأطفاله!! ... وما حصل مع هذا المزارع ليس الا مثالاً لما يحدث للأمم العظيمة قبل انهيارها من فرط التوسع.. فما أن تشعر بالقوة والعنفوان حتى تبدأ بالانتشار والتوسع على حساب الآخرين.. ولكن هذا التوسع سرعان ما ينقلب ضدها ويصبح بداية انهيارها.. فالامبراطورية الرومانية والعباسية والمغولية والعثمانية بلغت من التوسع حد الوهن والترهل ثم التآكل والانحسار والانهيار التام.. وفي العصر الحديث حدثت نفس الظاهرة مع الإمبراطورية البرتغالية والأسبانية والهولندية والبريطانية والروسية - والأمريكية هذه الأيام! فالتوسع الجغرافي يعني زيادة العبء الاقتصادي والمصاريف العسكرية للدولة.. ليس هذا فحسب بل يؤدي لتآكلها من الداخل كونه يتم على حساب الازدهار الاجتماعي والاستثمار المدني فتنهار الدولة بلا مقدمات (وربما بطريقة غير متوقعة كما حدث مع الاتحاد السوفياتي السابق)! وأمريكا اليوم إمبراطورية حديثة تعيش حالة تاريخية مشابهة.. احتلال في مناطق كثيرة حول العالم (فهذه ارض للرعي وتلك تختزن النفط وثالثة ذات موقع استراتيجي ورابعة وخامسة ووو...) والنتيجة ان التزاماتها الدفاعية اليوم تزيد على ما كانت عليه زمن الحرب الباردة - حين كانت تواجه خطراً حقيقياً - وأصبحت تتحمل عبئاً عسكرياً واقتصادياً لا يمكن أن يستمر طويلاً!! ... يقول المؤرخ الأمريكي بول كيندي (في كتاب القوى العظمى): على صناع القرار في واشنطن ان يدركوا حقيقة حتمية مفادها ان المصالح الأمريكية والتزاماتها تعدان اليوم أكبر من قدرة الدولة على الانتشار والدفاع عنها في كل مكان... (ولاحظ قال هذا عام 1989)!