إن أكثر ما يلحظ على المجتمع العربي في هذا العصر هو انزلاق بعضه إلى منحدر غرائزي في ردود أفعاله المباشرة التي تصدر لدن أيّ طارئ على حياتهم السياسية، ردود الأفعال تلك يشوبها كثير من الشخصنة والبعد عن الحوار الأخلاقي مع المختلف، وعدم إدارة دفة الاختلاف بشيء من الوعي والتعقل والتبصر في عواقب الأمور، إضافة إلى كم كبير من العداوة المترسخة في الذات العربية تجاه الآخر، وفي الاتجاه نفسه يُسمح للمغامرين والمأزومين بقيادة الجماعة بتصرفات غير محسوبة النتائج على الوطن بأسره، فلا فرق بين من يعتدي على رئيس دولة كبرى بالحذاء، وبين من يورط الوطن كله بأعمال إرهابية أو يجره إلى حرب عبثية لا تبقي ولا تذر ! وبدلا من أن ينبري أحد منهم لمحاسبة ذلك المغامر على تصرفه أو حتى يسائله، تنقاد وراءه الجموع اللاهثة انقياد القطيع، مهللة ومباركة ومحتفية بفعلته حتى ليبدو وكأنه أعاد القدس لهم، غير عابئين بما يواجه مجتمعاتهم من مخاطر وتحديات ينبغي لهم أن يصرفوا كل جهودهم لمواجهتها وأن يوحدوا طاقاتهم لاجتراح حلول لها، بدلا من الانزلاق مع الغوغاء والتورط في سلوكيات همجية لا تعود على الأمة بأي نفع، ولا تعطي المثل الصادق والقدوة الحسنة للنشء العربي الذي هو الآخر يواجه مأزقا في هويته وانتمائه، في هذا العالم الذي اختصرت فيه المسافات وكادت تتلاشى فيه كثير من الحدود، والمؤلم أن هذا النوع من السلوك العصابي يقوده كثير ممن يحسبون على الفكر والثقافة من أكاديميين وسياسيين وكتاب ومثقفين، فلم يبقوا شيئا للصغار والطائشين! لم يعتد العرب والمسلمون الأسوياء على رشق من يدخل بيوتهم بالأحذية مهما بلغت درجة الاختلاف معه، ولم يحدث ذلك في الثقافة العربية القديمة ولا في الإسلام، فكثيرا ما كان يتحدث الشعراء والفرسان عن النبل في التعامل مع الخصم وعدم أخذه على حين غرة، بل كثيرا ما عُفي عنهم وأعيدوا لمواطنهم مكرمين، كما تحدث الإسلام عن العفو عند المقدرة ومجادلة الخصم بالتي هي أحسن، هذا في الأحوال العادية، فكيف والإنسان في حضرة ضيوف للدولة احترامهم إن لم يكن لذواتهم فلذات دولته التي استضافتهم. لا أكتب ما أكتبه دفاعا عن بوش ولا يعنيني ذلك بقدر ما يعنيني الحرص على عدم ترسيخ ثقافة الغوغاء التي أصبحت أكثر ما تكون رواجا في عالم اليوم بفضل تقنيات العصر التي ساعدت على بث هذا السلوك الهمجي وترسيخه. والمؤسف أن من يقوده ويرعاه ثلة ممن يعدون قادة للرأي في عالمنا العربي، منذ أكذوبة منقاش الفلاح العراقي البسيط الذي زعموا أنه أسقط مقاتلة أمريكية ببندقيته، فسارت بذكرها الركبان، ونظمت فيها المعلقات الشعرية، فأي نكسة أصابنا بها هؤلاء!! من الأسئلة التي تتوارد على الذهن هنا : هل نبع تصرف ذلك الصحفي الطائش عن شجاعة وبطولة أم عن نزق وقلة حياء؟ وهل كان يروم تقديم مادة صحفية لقرائه عبر إحراج رئيس دولة كبرى يحل ضيفاً على بلاده أم كان يبحث عن بطولة متوهمة ومكاسب شخصية؟ وهل كان يعمل منفردا أم يعمل لحساب جماعة تريد تصفية حساباتها مع الرئيس الأمريكي؟ وهل يعبر سلوكه عن حالة خاصة أم عن سلوك عام تلبس به بعض العروبيين؟ وكيف نلوم الغوغاء والمنتمين للميليشيات الذين يسيئون فهم الديمقراطية ويستسلمون لمشاعر مغرقة في البدائية، عندما لا يفهم صحفي من الحرية والديموقراطية أكثر من إلقاء الأحذية في وجه الخصم؟ يقينا أنه لا تساور إنسان تربى تربية عالية رغبة في أن يقذف آخر بالحذاء مهما كانت درجة خلافه معه، لقد وصفت فعلة الصحفي بإنها ردة فعل آنية لشخص شعر بالظلم والغبن من الممارسات الأمريكية في بلاده، فأقول أكان هو وحده من تعرض لذلك؟ أليس كل الحضورعراقيين؟ أليس لهم أهل وأخوة وأصدقاء تعرضوا لما تعرض له "إن كان قد تعرض هو لشيء من ذلك" علما أن شقيقيه ينتميان لجيش المهدي الذي لا يقل ما فعله في العراقيين عمّا فعله الأمريكيون، فلماذا جاءت ردة فعله على هذا النحو المشين الذي رفضه كثير من العراقيين الأشراف (اطلعوا على صحفهم غير تلك الصحف المحسوبة على أيتام صدام وجيش المهدي)؟ إنه من المألوف في دول الغرب أن يقدم شخص أو أشخاص على قذف المسؤولين والرؤساء بالطماطم والبيض الفاسد وغير ذلك، و عندما يحدث أمر كهذا غالبا ما ينظر إليه في سياقه كعمل فردي، فلا يسيس كما يحدث في عالمنا العربي الذي منذ الرابع عشر من ديسمبر وحتى اليوم ليس لوسائل الإعلام حديث غيره، وكأن من قام به فتح فتحاً عظيماً أو حقق للعرب إنجازاً علمياً يرسمهم في هذا الزمن علامة مضيئة في مصاف الأمم المنتجة للحضارة المعاصرة وليس مجرد مستهلكين لمنتجاتها بطريقة تكرس تخلفهم عن الركب !! إن غير المألوف في العالم المتحضر أن يقوم صحفي مغمور سُمح له بالدخول إلى قاعة مؤتمر صحفي بصفته المهنية وليس الشخصية، برشق زعيم أو مسؤول ذي شخصية اعتبارية بحذائه مع تلفظه بكلمات نابية، بحثاً عن شهرة وسعياً لتكريس بطولة مزعومة، وهو الذي درج حسب أصدقائه في العمل على حب الإثارة والبحث عن الشهرة وما لابس ذلك من شعور جنون العظمة، إذن نحن أمام شخصية غير سوية، بل شخصية مضطربة، فكيف استطاع شخص على هذا المستوى المتدني تحريك الشارع العربي وقيادته بكل هذا الكم من الاندفاع، وكأني به شعبان عبد الرحيم آخر وإن اختلف الأسلوب الرخيص !! يقول أحد الكتاب العراقيين واصفا بطل (أم الكنادر): .. أنا متأكد بأن هذا الأمر مبيت له وأنه قبض المبلغ مقدما من الإرهابيين والبعثيين، وقد تم اختياره بعناية للقيام بهذا العمل المشين والذي لاينم عن أدنى رجولة لعدة أسباب، أولاً: انتماؤه للتيار الصدري وجيش المهدي، ثانياً: مرضه النفسي وحالة الشيزوفرينيا التي يعاني منها، ثالثاً: حقده الأسود على الأمريكان لوقوفهم ضد توجهات التيار الصدري بالاستيلاء على السلطة، رابعاً: المبلغ السخي الذي تلقاه من البعثيين، وأخيراً حالة الضياع التي يعاني منها هذا المريض النفسي). لم تحاول الكثرة من المحتفين بالبطل المزعوم أن تتساءل عما إذا كان العمل الإعلامي قد تحول من الاحتجاج بالكلمة إلى الاحتجاج بالأحذية مع من يختلف معه الصحفي، مما جعله ينحدر إلى مستوى البلطجية والمتسكعين في الشوارع البائسة وأزقة العصابات، إنه يحق لي أن أسأل أولئك المطبلين والمحتفين ببطل (أم الكنادر)، أنى لهم أن يضمنوا ألا يتحول هذا الأسلوب المشين إلى سلوك يمارسه بعض الموتورين والباحثين عن الشهرة من الصحفيين في الوطن العربي مع المختلفين معهم؟ ما الذي يضمن ألا تقوم جهة غير مسؤولة أو شخصية نافذة موتورة في العالم العربي بالإيعاز إلى صحفي مرتزق بالاعتداء على شخصية عربية اعتبارية؟ بل ما الذي يضمن ألا تقوم الدول الغربية بمنع الصحفيين ومراسلي وسائل الإعلام العربية من حضور المؤتمرات الصحفية؟ وعندها هل يلامون؟ ألن نقول عنهم: إنهم عنصريون يمارسون عدوانية تجاه العرب؟ ألا يعرّض هذا الصحفي الموتور زملاءه الصحفيين والإعلاميين كافة لمثل ما فعله الغرب مع العرب والمسلمين في دولهم ومطاراتهم إثر فعلة ابن لادن؟ وحيث كان العرب يفتشون بحثا عن الأسلحة والأحزمة الناسفة، فهل يدخلهم الزيدي طورا جديدا من أطوار الشك والامتهان لدرجة تجريد الإعلاميين من أحذيتهم ليعودوا حفاة كما كانوا في غابر أيامهم؟ أليس ما يُتداول اليوم من نكات بهذا الشأن قد يأتي عليه يوم ويصبح حقيقة ماثلة أمام أبصارنا؟ ألا نتوقع أن تتخذ دول الغرب حزمة من الإجراءات في أول مؤتمر صحفي قادم تخص بها الإعلاميين العرب دون غيرهم؟ وهل يبلغ اليأس ببعض آخر من العرب حدّ أن يتفقوا والرأي الذي يقول إن الشعوب العربية لا تستحق الديموقراطية لأنها لا تحسن استخدامها، وإن أكثر ما تقوم به من أعمال غير مسؤولة تحدث في الدول التي تمارس شيئا من الديموقراطية وإنها لا تسوسها سوى الأنظمة الديكتاتورية؟ إن البعد الأخلاقي شديد الأهمية في هذا الموقف، فليس مهما أن يكون ذلك الصحفي (المهدي المنتظر كما سماه أحد القومجية) مأجوراً أو عميلاً لجماعة حزبية أو إرهابية أو حتى دولية أو طالب شهرة، لكن الأهم هو مدى التردي الأخلاقي في التعامل مع القضايا على هذا النحو الغرائزي المتخلف البعيد كل البعد عما تحلم به شعوب هذه المنطقة من ديموقراطية حقة هي جديرة بها ! إضافة إلى التعاطي الإعلامي والجماهيري مع هذه المسألة الذي جعل العرب أضحوكة أمام أنظار العالم، باحتفائهم بهذا العمل الصبياني الشوارعي، فهل أصبحنا إزاء ثقافة أخذت تترسخ في البنية العقلية لبعض العرب، ألا وهي ثقافة الصغائر التي تعظم في عين الصغار؟وكيف سيصبح رد فعل المبشرين بخلود الحذاء بعد إنزاله هذه المنزلة الرفيعة إن رشقهم يوما أحد به؟ لست ممن يؤمن بنظرية المؤامرة، لكن ما يحدث منذ سنين في هذه الرقعة من العالم يؤكد أن هناك جهات مستفيدة من حالة التردي التي أصابت بعض العرب بإبرازهم أمة غرائزية تحركها أفعال الغوغاء، فتضخ الأموال لأفراد وجهات مشبوهة حتى تشعل الشارع العربي كما هو هذه الأيام من أجل حذاء لرجل تعيس ! وإلا كيف نفسر ما كتبه أحد الكتاب النضاليين الممانعين الضالين والمضلين قائلا : (فتحية إعجاب للصحفي البطل الشجاع منتظر الزيدي. وتحية قبلها، لذاك الحذاء الذي دخل التاريخ الإنساني من أوسع أبوابه وإنه لدرس وعبرة كبيرة لمن لا يعتبر، في لحظة لم يبق لنا فيها سوى الأحذية لاستخدامها للتعبير عن الغضب والرأي)، ويا له من خيار ! أو أولئك الشعراء الذين سارعوا لنظم معلقات تمجد بطلهم المزعوم، حتى انبرى تجمع يُعنى باللغة والترجمة معلناً تخصيص يوم الحذاء العربي في اليوم الذي انهال الحذاء على بوش، ومبديا استعداده لجمع كل القصائد الحذائية في كتاب، كما سيقوم بترجمتها، وذلك الذي أبدى استعداده لشراء الحذاء بعشرة ملايين ريال لو كان تعب في جمعها لما قال ما قال، والآخر الذي اقترح أن يوضع الحذاء في متحف، أو تقام له نماذج في ميادين الشوارع العربية !! وتطوع 200من المحامين العرب للدفاع عنه! أما ملحمة الجهاد الحذائي فقد بدأ في صياغتها عبد الباري عطوان وفيصل القاسمي وباقي الفئة إياها من الصحفيين العرب ! فأي لوثة أصابت عقول هؤلاء الذين لا يفرقون بين النصر والهزيمة، بين نصر العظماء ونصر المدعين؟ بين نصر يعيد الكرامة المسلوبة وآخر يهوي بها إلى الحضيض؟ من هنا تأتي أهمية (أم الكنادر) التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه كسلوك همجي، فالشعوب التي لا تجرؤ على فعل النصر، تظل دائما نشوى بنصر تمنى نفسها به حتى تخال الأكاذيب انتصارات! لقد انطلقت كما كان متوقعا حملات التضامن مع الزيدي، في أمكنة عديدة من العالم العربي، و تعالت صيحات الإعجاب من قبل جمهور المأزومين نشوة بالحذاء الذي عبّر عن مكنون صدورهم المفعمة باليأس، وهذه ليست المرة الأولى التي يصفقون فيها لكل مغامر لم يجلب لهم سوى الخيبات، فما دام يتحدى أمريكا فلا ضير، ألم يصفق هؤلاء من قبل لعبد الناصر الذي ألهب مشاعرهم بأسطورة نصر لم يتحقق وما زالت الأمة تعاني جراء سياسته الحمقاء، وهم أنفسهم الذين صفقوا للقذافي وهو يهدر ثروات بلاده على خطف الطائرات وقتل الأبرياء، وصدام حسين باحتلاله الكويت وإشعاله أكثر من حرب في المنطقة وتبديد ثروات العراق في كوبونات النفط على الزمرة إياها من مطبلي اليوم، وابن لادن في جرائم الحادي عشر من سبتمبر وإرهابه المنظم الذي عم أرجاء المعمورة، والزرقاوي الذي عاث قتلا وإرهابا في العراق فأقام له السلفيون والقوميون مجالس العزاء؟ (إن الفرق بين الفروسية والعنترية مجرد شعرة رقيقة، يعرفها جيداً أولئك القابضون على إنسانيتهم، فلا يستجيبون لغواية تصفيق الغوغاء، ولا يطربون لصيحات الدهماء، فالفارس لا ينتصر لذاته، بل لقيمة إنسانية رفيعة، وإن فعلها تحول إلى مهرج أو بلطجي).