مفهوم العالم القديم والجديد مصطلح لا يقوم بأن دول الحضارات الأولى مجرد مؤسِّسة لتلك الفترة الزمنية، وأن دول الشرق الأوسط التي ظلت قائدة المراحل عندما أسست الأبجديات والقوانين واكتشفت الكواكب، وصنعت التقاويم، وخرجت من عالم الرعي للاقتصاد الزراعي، فكت عقدها مع تلك التواريخ لتقف خلف آثارها تنعى الزمن وتتمسك بالماضي على حساب الحاضر.. فمصر، وسورية، وبلاد الرافدين، وإيران ظلت المراكز الأساسية في بناء الهياكل الحضارية، وشواهدها لا تزال قائمة، وإذا ما انضمت حضارات آسيا وأفريقيا، فإن شعوب القارتين من الرواد في إنشاء منظومة ذات التطور المبكر، غير أن سكونها وتخلفها، وانتقال مراكز القوة إلى أوروبا في بعث حضارة الإغريق والرومان، وانتشارها، إلى اليوم في دول العالم، لا يعني أن العقل الأبيض أكثر تطوراً من غيره، والدليل أن العناصر الصفراء، والملونة في آسيا وضعت اليابان على اللائحة المتقدمة، وقبل بريطانيا وألمانيا في البناء العلمي والاقتصادي وتزحف الآن قوتان عظميان، الصين والهند، إلى القوائم العليا في ميدان المنافسة.. وإذا قلنا إن أمريكا ذات الحضارة الهائلة، هي نموذج العالم الجديد عندما وصلتها الهجرات الأوروبية لتصبح وريثاً للغزو الأسباني والبرتغالي، فإنه لا يمكن فهم كيف انحسرت حضارة "المايا" التي دمرتها أسبانيا باسم رسالة الكنيسة ووعود الرب لتبقى مجرد أطلال كشاهد على عظمة ذلك التاريخ ومنجزاته، وتكون أمريكا بداية التاريخ الجديد لحضارة تعد امتداداً لأوروبا.. حوافز التقدم والتأخر لا ترتبط بالتاريخ فقط إذ أن اليونان، وحتى إيطاليا ليستا على القائمة المتقدمة بين الدول الأوروبية، وهما المعلمان للحضارة البيضاء، إن صح التعبير، وقد تكون كوريا الجنوبية أكثر ازدهاراً وإنتاجاً منهما، وتبقى منطقة الشرق الأوسط هي المركز للنزاعات والتخلف، ذلك أن معوقات التقدم لا ترتبط بإرث تاريخي، بل بنوعية الإنسان وظرفه الزمني عندما نجد الاحتكاك المبكر في الحضارة الأوروبية مع هذا الشرق، وتأسيس التعليم سابق لكثير من الدول المتقدمة في آسيا، والعبرة هنا، أن التحدي عندها ليس سياسياً مؤدلجاً يركض خلف سراب اللامعقول في إدارة الخطط الاقتصادية والعلمية، مثلما ظل العمل العربي، بل كانت الأدوات والخطط تُبنى على طرق متطورة في التعليم، وتنمية الإنسان، والذي ظل العامل الأقوى في نشر ثقافة العمل، وتأكيد الهوية، والإخلاص للوقت كمنجز مهم في صعود تلك الدول وشعوبها.. وضع المقارنات بين الشعوب والأمم، لا يُظهر أنها دورات تاريخية تهبط فيها بعض الحضارات لتنشأ أخرى، مثلما كان الماضي، إذا كانت التكنولوجيا تقف على مرحلة جديدة بما يُطلق عليه اقتصاد المعرفة عندما يتجاوز الإنسان الزمان والمكان في تحقيق مسار التكنولوجيا وفق التطور البشري، وهو ما يعني ديمومة حضارة إنسانية هويتها كونية لا قارية أو إقليمية..