ليس ثمة فعلا أي عائق هام يحول دون اعتماد نظام التعامل مع المال حسب الطريقة الإسلامية في فرنسا. هذا هو أهم استنتاج تمخضت عنه فعاليات المنتدى الفرنسي للتمويل الإسلامي في دورته الثانية والذي انعقد في العاصمة الفرنسية يوم السادس والعشرين من شهر نوفمبر الجاري بمبادرة من الغرفة التجارية الفرنسية العربية وعدد من المؤسسات الفرنسية التي تعنى بالاستثمار. ويتضح من خلال الأوراق والمداخلات التي قدمت خلال هذا المنتدى أن الأزمة المالية والاقتصادية التي تعض بأنيابها بشكل خاص اليوم على اقتصاديات البلدان الصناعية الكبرى من جهة ونجاح تجربة التمويل على الطريقة الإسلامية وانسجامها التام مع متطلبات النزاهة والشفافية والأخلاق من جهة أخرى تحمل اليوم كثيرا من هذه البلدان الصناعية على إقرار نظام التمويل الإسلامي. ومن هذه البلدان فرنسا التي كانت تعتبر عن جهل هذا النظام غير مجد بالنسبة إلى عملية تحريك دواليب الاقتصاد وغير متلائم مع نظام إدارة الأموال واستثمارها كما سن في هذا البلد. فقد أكد كثير من المشاركين في الدورة الثانية للمنتدى الفرنسي الخاص بالتمويل الإنساني أنه آن الأوان كي تقر فرنسا هذا النظام وتفتح له أرضية في مؤسساتها المالية والمصرفية وفي مختلف مراحل التعليم والتأهيل التي لديها علاقة بالاقتصاد. وقال أحدهم إذا كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يشدد اليوم على ضرورة إقامة تعاون مثمر بين الصندوق السيادي الفرنسي الجديد وصناديق سيادية أخرى فإنه يدرك جيدا أن كثيرا من هذه الصناديق وبخاصة في منطقتي جنوب شرقي آسيا ومنطقة الخليج تخضع لنظام التمويل على الطريقة الإسلامية. والملاحظ أن الصندوق الفرنسي الذي أعلن عنه الرئيس الفرنسي قبل أيام يهدف إلى مساعدة المؤسسات الاقتصادية الفرنسية الاستراتيجية على مواجهة الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الحالية. واعتبر متدخلون آخرون في المنتدى أن أموال المؤسسات المالية التي تستخدم النظام الإسلامي في العالم تقدر اليوم بحوالي ألف مليار دولار وأن هذا المبلغ سيتضاعف بمعدل أربع مرات في غضون السنوات العشر المقبلة. وأشار مشاركون آخرون في المنتدى إلى أن فرنسا قد تأخرت كثيرا في اعتماد نظام التمويل على الطريقة الإسلامية على خلاف ماهو عليه الأمر بالنسبة إلى بريطانيا العظمى التي اعتمدته عام ألفين وأربعة وساعدها ذلك كثيرا على تعزيز مكانة لندن كإحدى الرئات الأساسية التي تتنفس منها مؤسسات المال والأعمال في العالم. ولابد من الإشارة هنا إلى أن هناك عددا من الأشخاص العرب والفرنسيين الذين اضطلعوا في السنوات الأخيرة بدور هام في إثراء الحوار والنقاش لدى المؤسسات المالية الفرنسية ولدى السياسيين الفرنسيين والسعي إلى إقناعهم بضرورة التحرك لتدراك تأخر فرنسا في التعامل مع نظام التمويل على الطريقة الإسلامية. ومنهم أساسا الدكتور صالح بكر الطيار أمين عام الغرفة التجارية الفرنسية العربية. بل إنه كان شخصيا وراء الجهود التي بذلت لتنظيم دورتي المنتدى الفرنسي للتمويل الإسلامي. خطوات جيدة ومن الشخصيات الفرنسية التي حذت حذو الدكتور الطيار في هذا المجال لا بأس أن نذكر هنا السيدين جيل سان مارك وجان أرتوي. أما الأول فإنه محام فرنسي شاب يترأس اليوم لجنة التمويل الإسلامي في هيئة تسمى «باري أوروبلاس» وتعنى بالعمل على جعل باريس مركزا ماليا مشعا من خلال استقطاب الاستثمارات والأموال الخارجية والداخلية بطرق وحوافز مثلى. ويعمل هذا الشاب منذ سنوات عديدة على إقناع مؤسسات مالية ومصرفية كثيرة بالسعي إلى إعداد العدة للانخراط في منظومة التمويل على الطريقة الإسلامية. بل إنه كان وراء مبادرتين في هذا المجال أقدم عليهما مصرفا «ب. ن-بي-باريبا» و«سوسيتي جينرال» الفرنسيان. ولم تثمر هاتان التجربتان لأن المشرع الفرنسي لايزال حتى اليوم يرفض اتخاذ الإجراءات اللازمة لتسهيل اعتماد نظام التمويل الإسلامي. وكان جيل سان مارك ضمن فريق العمل الذي أعد دراسة شاملة وجامعة حول الموضوع بطلب من وزارة المالية. وهو أيضا عضو في مجموعة عمل شكلتها وزارة الاقتصاد الفرنسي لمتابعة الملف وتقديم مقترحات عملية من شأنها حمل المشرع الفرنسي على تسهيل التعامل مع نظام التمويل على الطريقة الإسلامية من قبل المؤسسات المالية والمصرفية الفرنسية. وأما جان أرتوي فهو وزير فرنسي سابق ينتمي إلى الوسط ونائب في مجلس الشيوخ الفرنسي. بل إنه يترأس اليوم لجنة المالية التابعة لهذا المجلس. ومن المبادرات التي اتخذها الرجل لتشجيع أصحاب المال والأعمال والذين لهم دور في عملية سن القوانين ومنهم نواب مجلس الشيوخ على تسهيل العملية ،لابد من التذكير بمؤتمر حول الموضوع أشرف أرتوي نفسه على تنظيمه في مقر مجلس الشيوخ الفرنسي يوم الرابع عشر مايو الماضي. وقد ذكر النائب عند افتتاح أعمال المؤتمر بالمبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام المالي الإسلامي وهي عدم استخدام الربا والابتعاد عن المضاربة وعدم الاستثمار في المحرمات وما لايتلاءم وتعاليم الاسلام السمحة ومنها كل مالديه صلة بالمشروبات الكحولية والاتجار بالأسلحة. كما شدد رئيس لجنة المالية في مجلس الشيوخ الفرنسي في هذا السياق على مبدأ المشاركة في الخسارة والربح ومبدأ التكافل والعمل على الاعتماد على معطيات فعلية في استخدام المال لا معطيات افتراضية مثلما هو الشأن اليوم في أسواق البورصة. وخلص أرتوي إلى القول إن أهم مايميز نظام التمويل على الطريقة الإسلامية عن النظم المعتمدة في الغرب أنه النظام الوحيد الذي يقوم على منظمة أخلاقية متكاملة. وختم أرتوي مداخلته بالتأكيد على أن إدخال نظام التمويل الإسلامي إلى فرنسا من شأنه أن يكون أداة جيدة من أدوات اندماج المسلمين الفرنسيين في المجتمع الفرنسي. والجدير بالذكر أن عدد أفراد الجالية الإسلامية في فرنسا يتراوح بين خمسة ملايين وستة ملايين شخص. وكانت أول عملية سبر آراء حول الموضوع كشف عن نتائجها في الصيف الماضي قد أكدت أن سبعة وأربعين بالمائة من أفراد العينة المستجوبة لدى هذه الجالية يرون أنهم يرغبون في فتح حسابات ادخار لدى المصارف والمؤسسات المالية الفرنسية التي تعمل على الطريقة الإسلامية في حال إقرار نظام التمويل الإسلامي في فرنسا. وقال خمسة وخمسون بالمائة من أفراد العينة المستجوبة إنهم مستعدون للاقتراض من مثل هذه المؤسسات والمصارف. ومجمل القول اليوم إنه لدى المحللين الماليين قناعة بأن سنة ألفين وتسعة ستكون سنة إرساء نظام التمويل الإسلامي لدى المؤسسات المالية والمصرفية الفرنسية لعدة أسباب أهمها تبعات الأزمة المالية والاقتصادية الفرنسية على هذا البلد وانعدام معوقات حقيقية تحول دون سن مثل هذا النظام في بلاد الفيلسوف مونتيسكيو الذي كان كان يقول إن الاقتصاد الجيد هو الاقتصاد العذب أو الهادئ الطباع. وهي مقولة تنطبق فعلا على المنظومة الاقتصادية حسب تعاليم الإسلام السمحة.