يعتبر الراوية غيث بن فرج الحجيلي رحمه الله من خيرة الرواة في منطقة المدينةالمنورة، لما يتمتع به من معرفة وإبداع، فهو من شعراء الرد المعروفين بالفطنة وسرعة البديهة، ولديه حصيلة من أخبار السابقين وأشعارهم، يترنم بإبداعه الشعري ومحفوظاته من القصائد والشعر الحربي والكسرات ترنيماً يضيف إلى الشعر عذوبة آسرة، وجمالاً رائعاً. ومن مروياته نختار اليوم بعض النصوص التي تنقل لنا صوراً من واقع الحياة وقيمها فيما قبل ظهور البترول، ذلك المعدن الذي أحدث استثماره تحولاً كبيراً في حياتنا. ومن هذه المرويات نختار نصين شعريين يمثلان مأساة رجلين فرا من ديارهما إلى البعيد بحثاً عن مكان آمن من الأرض ذات الطول والعرض، وذلك ما لم يتسنَّ لعمران بن حطان الذي يقول: لولا بنيات كزغب القطا كررن من بعض إلى بعض لكان لي متسع وافر في الارض ذات الطول والعرض وإنماأبناؤنا بيننا أكبادنا تمشي على الارض ويبدوأن الأول منهما تعرض للتهديد بالقتل من قبل قبيلته لجناية اضطر لارتكابها والفرار للنجاة من عقوبتها، ومع أنه يجد المكان الآمن إلا أنه ليس كالأمن في الأوطان، إذ ما استقر به المقام في البعد حتى شدة الحنين في غربته إلى دياره، وأقض مضجعة، ولما كان خصومه من بني عمومته فليس له إلا استنهاض أخواله للسعي لدى بني عمومته لمعالجة قضيته. والخؤولة قيمة اجتماعية في الحياة الاجتماعية السالفة، فهي تتيح للخال الوساطة بل هي من واجباته ومن حقه على أصهاره قبول وساطته ولومه إن لم يقم بواجب الخؤولة. لذا دبج المغترب رسالة شعرية إلى اخواله استهلها بالدعاء والتعبير عن حزنه وأساه وحنينه إلى دياره التي لم ينسها بقوله: ياالله ياالمطلوب ياعالي الشأن يا دافع السيّات عنا بالاحسان تردنا للي له البال نشطان اللي ولو طال المدى ما نسيناه ثم يصف الراحلة التي تنقل حامل رسالته بالأصالة والضمور والسرعة واللياقة، بل وبكل المعايير المستحسنة في الركاب، وهي الإبل الخاصة بنقل رسل المهام العاجلة ونحوها، ثم يصف أخواله بالكرم والجود من الاحتفاء والحفاوة إلى طلاقة الوجه والأبيات تنقل لنا بعض الملامح الاجتماعية بوضوح. انص خوالي ثم تلقون فنجال في دلتين ضوهن يشعل اشعال فيهن دوا لاهل الهوى والتمثال لا بنها محرق ولا هي مناياه من عقبها تنقل عليك الذبيحة والرز ينقل في الصحون المليحة ويقابلونك بالوجيه الفليحة تبري جروح القلب لو هو مكالاة وبعدها ينتقل الشاعر إلى هدف القصيدة فيقول: قل ياخوالي يا خوال اللزوم خلتني الدنيا كما هي ديومِ ابدوا على ربعي وسووا علومي ولا لي سواكم واحداً واترجاه الصبح أعدي في علوّ الرقايب أسال وانشد مبرحات الهبايب ودموع عيني فوق خدي سكايب واقول اظنك ياالهبايب موصّاه ويبدو أن القصيدة أكثر أبياتاً من ذلك. أما الشاعر الآخر فهو يشترك مع الأول في آلام الغربة ويختلف عنه في أسبابها، ومعاناته تتركز في مشاعر الغربة والوحدة والضعف وانعدام النصير، ويعيش حياة مشقة وضنك بين المراكب والسواعي وأعمال البحر الشاقة يقول الشاعر: الله يعيد الزمان اللي يراعيني واراعيه ما هو كما ذا الزمان اللي علينا ما يراعي قالوا مدحت الزمان وقلت يمدح من رغب فيه وانا إلى الساع مابين المراكب والسواعي بلاي واحد وحيد ولو غدا لي دين ما اقضيه قومي لحايين واللي لازم السدرة خزاعي وتظهر ملامح وقيم المجتمع البدوي بجلاء في شعرالأول، بينما يبدو أثر المجتمع المدني أو القريب منه في شعر الثاني، الذي يحن إلى الماضي ويتألم من الوحدة والخذلان والتسلط. ويبدو أيضاً أنه شاعر مقل وربما كانت هذه الأبيات الرقيقة أكثر من ذلك. ومن مرويات الحجيلي رحمه الله أن شاعراً طرح أربع قيم اجتماعية يعتقد أن الناس يتسابقون لاكتسابها ويختلفون في أفضليتها فيقول: أربع معاني بينهن اهتواشِ وابغي انشد العرّيف فكري بهن حار أحد يقول المال مال المواشي واحد يقول المال يا مال الانهار واحد يقول البيض فوق الفراشِ اللي ملايمهن يمتِّع بالاعمار واحد يقول العِرءف في قلبي ناشي اللي ليا عمست يدلنك الابصار إنه يفاضل بين امتلاك المواشي أو الزراعة أو الزوجة الصالحة أو المعرفة. وربما كانت الأبيات أكثر من ذلك، ولكن رواة البادية يركزون على رواية الأبيات ذات المضمون الذي يشدهم ولا يهتمون بالديباجة التي تضم هذا المضمون. وقد استهوى الرد شاعر أطال في الرد ولكنه لم يتعرض للقيم الأربع بل ركز على إجمال القيم المفضلة في زمنه (من وجهة نظره) فيقول: يا راكب اللي زيّنت بالعسافِ سامك عليها المخ من در الابكار منصاك ابو مقبل زكاة النواشي اقره سلامي عد ورشات الاثمار يذكر معاني بينهن اهتواشِ يبغي لبيب العقل فيهن يحتار ليا اسعفت يلمّهن كل ناشي ياخذ بهن في شبة العمر مغوار والوقت اظنه فيه ليّن وقاسي ولا ناشي الا اللي على الوقت صبار ثم يفند القيم المفضلة فيقول: الفن للخطار طش الفراشِ اللي بنى بيته على جال مسعار ترحيبة بالضيف من قلب صافي ودلال جاذبهن على حاجر النار ويمضي في تمجيد تقاليد القهوة العربية والضيافة، ويعود إلى القيم التي دعاها فنوناً: والفن الاخر وان غدا الجمع ضافي يوم النشامي بينهم شبّت النار يوم المداخل بالسيوف الرهافِ يوم المناوى عند حسكات الانظار ثم يختتم القصيدة بالدعاء وتذكر يوم الحساب. ويلاحظ أن الشاعر لم يجب عن التساؤل المطروح وإنما ركز على الكرم والشجاعة، وهذا يعود لأمرين الأول احتمال فقدان بعض أبيات القصيدة، والثاني انصراف الشاعر عن الرد والمضي في سياق مستقل يستعرض فيه الشمائل والقيم ذات الأولوية لدى الشاعر. أما عدم الالتزام بقافية الصدر، في القصيدة فإن بعض الشعراء يتسامحون مع عدم الالتزام بالقافية الصدرية معتبرين الالتزام بحركة حرف الروي يقوم مقام القافية، ولذا نلاحظ ثبات حركة الكسر وتبادل حروف الشين والسين والفاء مراكز القافية.