لايمكن الكتابة عن رواية علي بدر الأخيرة (حارس التبغ) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، دون تناولها كمقولة ثقافية، فهي أقرب اليها من فكرة الرواية. ومع كل الضجيج الذي رافق صدورها، باعتبارها متأثرة برواية ساراماغو (سنة موت ريكاردوريس)، فان من المجدي الحديث عن مغزى صدور هذه الرواية العراقية كخطاب محلي، بل عربي، قبل البحث عن تشابهات في التوريات والاستعارات.فهي حكاية بين الحكايات المتخيلة لأبطالها التي تنفي فكرة الهويات او تحاول محو معالم الاختلاف بينها.ولعل علي بدر في استعانته بقصيدة دكان التبغ لفرناندو بيسوا، دون سيرة الشاعر الأدبية التي تحمل أسماء مختلفة، أخذ الجزء من الكل في صياغة حافز فني عابر، شأنه شأن موجة الإهتمام عربيا ببيسوا، فلكل أديب حافزه وأسبابه ومبرراته. علي بدر في كل رواياته، يقدم المقولة الثقافية على الصنعة الحكائية،وهو بهذا المعنى، شديد الحرص على أن يضع أمامه خطابا، وينسج حوله جملة مقولات،ثم يبدأ بنفيها أو إثباتها. شخصيات رواياته في أغلب الاحيان، تقوم بدورتجسيد النماذج الحاملة لتمثلات الخطاب،أما الحبكة فتتولى مهمة ترتيب الأماكن والأزمنة التي تتحرك فيها دراما التصارع الأيديولوجي. ومع أن هذا الجانب يبدو وكأنه يعيد الرواية الى عصرها التعليمي، غير أن علي بدر بما يتوفر عليه في رواياته، من حيوية ومثابرة في اقتناص الأفكار المعاصرة، يطمح ويسعى الى أن يكون بديلا للروائيين العفويين الذي لا يملكون سوى خيال تحركه غريزة صنع الحكاية عند البشر. الباحث القابع في إهاب الروائي، والجوال والمغامر، هو الانطباع الذي يخرج منه القاريء في تصوره عن السارد العليم، بطل علي بدر الروائي، في أغلب الأحيان. انه صوت الذات وهي تراقب وتتدخل وتعدّل في صورة العوالم الواقعية، وخاصة عالم بغداد التي ينظر اليه من خلال مسروداته، على انه الواقع الذي لم يتحقق، والجمال المحلوم به، والطاقة الكامنة في روح المدينة. في (حارس التبغ) يقيم علي بدر عالمه الروائي من بحث مستفيض في الأماكن والشخصيات وتواريخ الحوادث التي صادفتها،فتبدو النماذج في اقترابها من الأصول التي نسجت على غرارها، وكأنها تنفي مهمتها الفكرية،او تضعف من الاسقاطات الايديولوجية التي نتخيلها. وللأسباب ذاتها يمكن أن نفهم الصلة بين روايته الجديدة ورواية ساراماغو، فعلي بدر المتمسك بالمسرودات الجديدة، وبالمناهج الحديثة في القراءات، تصبح كل المواد قابلة للتبييء بالنسبة اليه، تناصا وتأصيلا، صدفة وتعمدا. يقوم هيكل (حارس التبغ) على تنظيم المسارات من خلال مركز واحد،موناد (فرد قائم بذاته) تتجمع فيه الذوات والتواريخ لترتسم في جملة مواضيع تجسّد موضوعا واحدا : الثقافة ونفيها، التحضر ونقيضه، التسالم والعنف. وكل تلك المواضيع تتعالق في مكان واحد، بغداد التاريخ المعاصر الذي ما خمدت أوار ناره. خطاب السارد يدور حول نفي الهويات الصغيرة، فهي كما يرى، لاتعرب سوى عن "زيف ما كانوا يطلقون عليه الهوية الجوهرية، ذلك لان حياته (البطل) تبين إمكانية التحول من هوية الى هوية عبر مجموعة من اللعبات السردية، فتتحول الهوية الى قصة يمكن الحياة فيها وتقمصها،وهنا يطلق هذا الفنان (البطل) ضحكة ساخرة من صراع الهويات القاتلة عبر لعبة من الأسماء المستعارة والشخصيات الملتبسة والأقنعة الزائفة.". الحبكة التي يجري عبرها تجسيد شخصية البطل المتغيرة، تقترب من قصص الواقع، قدر ما تستفيد من مفارقاته،فالبحث الروائي يضيء التواريخ المعاصرة لبغداد، عبر شخصية موسيقي يهودي ولد في العشرينات وبرز في عهد صعود الطبقات الثرية وممثلي الثقافة الحديثة، أي أواخر الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم. ينتهي فصل هذه الشخصية الأول بالتهجير القسري،بعد أحداث العنف التي استبيحت فيها بيوت اليهود وأرواحهم، ليبدأ الإنبعاث الثاني للشخصية ذاتها على عهد قاسم، نهاية الخمسينات، وعلى هيئة فنان يرفض العيش باسرائيل، ويعود عبر ايران بمساعدة الشيوعيين العراقيين الى مدينته، بعد ان يحصل على هوية رجل شيعي مات بطهران. يشهد زمن صعود الغوغاء على عهد قاسم، ليصل العنف الى أقصاه بعد مقتل الزعيم،واستيلاء البعثيين على السلطة. يهجّر مرة اخرى إثر اندلاع الحرب العراقية الايرانية، ويعود بهوية جديدة بعد انتحال شخصية رجل سني يتزوج امرأته، ليمر بدورة التحول الثالثة، فيغدو موسيقارا مقربا من صدام حسين، ثم يخطف ويقتل بعد الاحتلال. وفي كل دورة من دورات حياته، ينجب ولدا يلتقيه قبل موته ممثلا للهوية التي حملها : مائير اليهودي الذي يعود مع الجيش الاميركي بعد ان عاش في أميركا،واصبح جنديا، مبشرا بالديمقراطية، وحسين الذي يعود مع المعارضة الشيعية مبشرا بالعهد الاسلامي السعيد، وعمر المعارض للسلطة الشيعية والمنضوي تحت لواء المقاومة. هذه الحكاية التي تبدو مفبركة، هي المعادل لخطاب الهويات المفبركة الذي يريد ابرازه المؤلف. اما توطئة الرواية عن الصحفي الباحث عن قصة الموسيقار القتيل، فهي تعود الى المكان العراقي حين يتحول الى مستعمرة مسورة بالكونكريت، وهي مثل الحكاية الأصلية إستئنافا لصراع الهويات. وإن جاز لنا عبور الجانب الفني اعتمادا على فكرة التشويق، فإن الموضوع الانساني، والجرأة في معالجته، يبرزان على مستويين : المستوى الأول نشر سجلات التهجير في حياة العراقيين، وبينها تهجير اليهود الذي رافقه عنف غير مسبوق من قبل الغوغاء،وبالتواطؤ مع النازع النازي الذي سكن وجدان الانقلابيين في العهد الملكي. سؤال الرواية يذهب الى نفي براءة الشعب من الإرتكابات،وهو موضوع الرواية الأول،الذي يبقى هاجس البطل في كل أطوار حياته، والجانب الثاني يطاول مبحثا في الثقافة الشعبية التي تتحول في العهود الثورية الى رثاثة،وفي زمن الحرب الى تجيش للغرائز البدائية. الرواية تقدم الصورة، في بعدها الأول، خطابا متصلا لتاريخ منظور، تاريخ يمحي الثقافة العارفة وروحها المتسامي، ويحل بدلها ثقافة الحرب والعنف،حيث تتوحد الغرائز العنصرية مستجيبة الى حمى الكراهية والحقد. ومن هنا يصبح البطل غريبا على امتداد تاريخه "كان في العشرين من عمره وهو يقرأ الجرائد، ويعرف الجو العام، ويدرك مغزى المذاهب، ويعرف أن ثمة حركة كاملة ضد وجوده هنا، كان من الصعب عليه أن يقاوم، او يحمي نفسه من الضياع، كان يدرك بصورة لاتقبل الشك أن كل حوار هنا سيغدو مستحيلا، كل مقاومة تبدو عابثة. ". فردانية البطل تتجسد في قناع يحجبه عن الناس،هو قناع الموسيقى الذي يأخذه بعيدا عن العامة "كان موقفه ينطوي على عداء للعوام والغوغاء بصفة عامة، وربما جاء هذا العداء في البداية من عدم قدرة الجماهير على فهم موسيقاه. " ولن يجد طريقة للإندماج إلاّ عبر النساء، الزواج الذي يكسبه هوياته الطائفية، والعلاقات النسائية التي تصبح خطواته نحو الناس البعيدين. بيد أن خطاب الرواية في نفيه الهويات الصغيرة،او التقليل من شأنها، يقترب من منطق الهوية الجامعة، الهوية التي هي الأخرى سردية بين سرديات كثيرة، تحتمل الإحتمالات ذاتها عن فكرة الأنا والآخر، الاندماج والاغتراب. ويبقى عالم الابداع الذي يسكن البطل، مكملا لفكرة التمسك بالمدينة التي ولد فيها، وغير قادر على خلق الهوية العابرة لمحليتها. ما كسبه بطل رواية "حارس التبغ" من تعدد هوياته المحلية،خسره وهو يلغي هوية المنفى، ولكن المؤلف في تأكيده عبر التكرار على "صورة المحلي" وهو يُعاين من خارج المكان، يقلل من أهمية وغنى المادة الخام، التي تجعل المفارقة الرمزية تكمن في الكواليس لا على واجهات المسارح.