الأسابيع الثلاثة الماضية يمكن اعتبارها "سعودية" بامتياز، فلا تكاد تفتح صحيفة دولية، أو تشاهد نشرة متلفزة إلا ويرد فيها ذكر السعودية، أو صورة عابرة للملك عبدالله بن عبد العزيز، ولعلها من المرات القليلة التي تحظى فيها السعودية باهتمام موضوعي وإيجابي (دون منغصات تذكر) في عدد كبير من الوسائل الإعلامية الغربية، إذ كل يريد من السعودية القيام بدور ما، فالصحافة الأمريكية تريد من السعودية إعادة تفعيل مبادرة السلام العربية أمريكيا، فيما الصحافة البريطانية تشدد على ضرورة أن تساهم السعودية في صندوق النقد الدولي نظرا لمكانتها الاقتصادية الصاعدة، وجلوسها في شخص الملك عبدالله على طاولة قمة العشرين الاقتصادية. أما الصحافة الألمانية فتشدد على ضرورة أن ترعى السعودية المفاوضات بين الفصائل الأفغانية أملا في تخفيف حدة عمليات العنف المتصاعدة والتي تشكل تهديدا مباشرا لقوات الناتو. وأخيرا، فإن عددا من الصحف الأوروبية اعتبرت مبادرة الملك عبدالله للحوار بين الأديان والحضارات والتي عقدت في مقر الأممالمتحدة خلال الأسبوعين الماضيين نقلة تاريخية للإسهام الأخلاقي السعودي في العالم، وفرصة ضرورية لاحتواء التوترات الطائفية والحضارية بين العالمين الغربي والإسلامي. لا شك، أن ما يحدث هو تطور إيجابي يصب في تحسين الصورة السعودية عالميا، وأكثر من ذلك هو أن الآخرين -لاسيما اللاعبين الدوليين الكبار كالولايات المتحدة والصين وروسيا- باتوا ينظرون للسعودية كدولة مؤهلة للاضطلاع بدور عالمي يفوق حدودها الإقليمية. صحيح أن السعودية ليست حديثة العهد بالمشهد الدولي، ولكنها لأول مرة تصعد وتجلس إلى طاولة النخبة برغبة ودعوة الكبار أنفسهم الذين يشعرون بحاجتهم لمكانة السعودية عربيا وإسلاميا ولثقلها الاقتصادي الواضح في مجال الطاقة. اليوم، تنضم السعودية إلى قائمة الدول المؤثرة في العالم كممثل عن العالم العربي من الخليج إلى المحيط. كثيرة هي الأنظمة التي بذلت كل شيء من أجل تحصيل الاعتراف الدولي بها كقوى إقليمية مهمة، البعض مول ذلك بالمال، والبعض الآخر توسل إلى ذلك بالقوة وترهيب الآخرين، ولكن وحدها السعودية حصدت ذلك الاعتراف نتيجة لعقلانية خطابها السياسي، واعتدال دورها الإقليمي. بيد أن هذا الدور السعودي المتعاظم خارجيا تزامن مع مواقف إقليمية عدائية، تمثل أغلبها في هجوم إعلامي مركز ضد السعودية، فكل مبادرة أو موقف سعودي خلال الأشهر القليلة الماضية بات يتم تفسيره على أسوأ التقديرات، وبات "الردح" ضد السعودية في صحف المعارضة في لبنان، أو الصحف الحكومية في إيران وسوريا وقطاع غزة، وغيرها من وسائل الإعلام العربية "المستأجرة" في لندن أو باريس، يطغى على كل ما ينشر من تقارير ومقالات وتغطيات. ففي لبنان تندد صحف المعارضة بمؤتمر حوار الأديان وتتهم السعودية بأنها تسعى للتطبيع مع الإسرائيليين، وتورط في هذا السجال ساسة لبنانيون وجدوا في ذلك فرصة للتعريض بالسعودية وكأنهم المدافعون عن حمى العروبة والإسلام ضد العدو، فيما امتلأت الصحافة السورية بتهم موجهة للسعودية بأنها وراء مؤامرة مشبوهة لدعم الخلايا الإرهابية في شمال لبنان، وهناك عشرات النماذج من التغطيات الإعلامية المسيئة والمبنية على اتهامات وتحريف للحقائق من أجل النيل من السعودية. ويخيل للمراقب أن النيل من السعودية بات الطريق الأقرب لركوب موجة التضليل، والمزايدة الخطابية ضد مواقف دولة بذلت ماديا ومعنويا لخدمة قضايا العالمين العربي والإسلامي ما تعجز عنه كافة الدول العربية مجتمعة. ولعل أبرز نموذج لأسلوب التضليل ما كتبه أحد الكُتاب المأجورين ، ولأن جوهر الأزمة التي يعاني منها عدد كبير من الإعلاميين العرب مع السعودية، فهم مستاؤون من أن تكون السعودية هي النموذج العربي المعتدل بالنسبة لبقية دول العالم، وهم يسوؤهم أن يحظى السعوديون (مسؤولين ومواطنين) على صورة حسنة في العالم الخارجي، فبحسب الكاتب المأجور - فإننا ككتاب سعوديين- في رأيه - نمارس خطة سعودية "لإلغاء قضية فلسطين ومحوها من العقل العربي كقضية مركزية تشكل لب الصراع الإسلامي/الإسرائيلي"، ويضيف بأن المنهج السعودي في العمل السياسي يسير على الطريقة "الساداتية" التي سعت إلى التطبيع مع العدو، وبالرغم من أنهما (أي المنهج السعودي والساداتي) ينتميان إلى المدرسة الأمريكية نفسها، "فإن المنهج السعودي يميل إلى التدرج والتريث والخطوات الصغيرة وصولا إلى الخطوات الكبيرة". طبعاً، هذا الكاتب الذي كان مدافعا معروفا عن النظام البعثي العراقي لأعوام، قبل أن يسوق نفسه للخليجيين، حاول لمرات عديدة مغازلة السعوديين، وبعد أن أدرك عدم رغبتهم بقلمه المؤجر عاود -ونظراؤه العروبيون والأصوليون- الهجوم على مواقف السعودية ومبادراتها الدولية. أعتذر للقارئ إن نقلت كلاما لشخصية معروفة بعدائها (وكراهيتها) للسعوديين، ولكن علينا أن نكون واقعيين فمثل هذا الخطاب السيء تمتلىء به صحف وصدور البعض في المنطقة، وبالرغم من كون "الشوفينية العروبية" ضد السعودية قديمة، ووجود واقع تقزيم ثقافي ونظرة دونية لدى فريق من الكتاب العرب -لاسيما عرب الشمال- ضد الإنسان البدوي في الخليج، إلا أن ما نشهده مؤخرا هو دليل على فقر معرفي وعجز ثقافي لدى مروجي الكراهية والتعصب في المنطقة ضد صعود السعودية كأبرز قوة سياسية واقتصادية في المنطقة. قديما، كان "مروجو الكراهية" يستخدمون أدوات التمييز الثقافي والحضاري ضد الآخرين -الأقل حظا- ويعيرونهم بأقذع الأوصاف، ويغتاظون بشكل أناني من توافر الثروات في الخليج. أما اليوم فقد اختلفت المعادلة إذ أصبح بدو الأمس الأكثر تعليما، والأفضل تقدما على مستويات النمو الحضاري والتقدم التكنولوجي، ليس هذا فحسب بل تملك السعودية ودول الخليج سياسات معتدلة ونظما اقتصادية تفوق نظيراتها في الشرق الأوسط. ليس هذا دفاعا عن السعودية، فهي لم تقترف جريمة أو تقصر في حق أحد من دول المنطقة حتى يتم الدفاع عنها، بل سيكون أول عناصر الضعف أن يلجأ السعوديون للدفاع عن تهم وذنوب لم يرتكبوها. نحن لسنا مجتمعا ملائكيا، لدينا من الأخطاء الكثير، ونملك جوانب سلبية في ثقافتنا وممارساتنا الاجتماعية والدينية، وتعاني مؤسساتنا الإدارية من البيروقراطية وغيرها من الآفات، ولكننا بالرغم من كل ذلك أفضل حالا ممن يهاجموننا ويشنون الحملات التحريضية علينا. على كل مستوى كان حضاريا واقتصاديا وإنسانيا فإننا بين الأفضل في المنطقة، وحجم أدائنا داخليا وخارجيا لا يمكن التقليل من شأنه. وأهم من ذلك كله أن لدينا قيادة تؤمن بالإصلاح، وتسعى إلى تنمية البلد، ولديها أربعون ألفا من طلابها يدرسون في أهم المؤسسات التعليمية في العالم. باختصار، نحن نعترف بقصورنا، ولكننا نعمل جاهدين لتحسين أحوالنا، ولسنا بالتأكيد بحاجة إلى وعظ أو تصحيح من أحد في المنطقة، فلا أحد يملك ترف وعظنا. بينما يغرق الآخرون في حروب أهلية، وتدار دول بأكملها وفق أجندة طائفية وتوازنات قلقة بين أمراء حرب وقادة مليشيات مسلحة، فإننا نملك صوتا سياسيا معتدلا يغلّب المصحلة الداخلية أولاً، ويحفظ للجيران والفرقاء العرب حقوقهم. لا نعتدي على أحد، ولا نبادر إلى خصومة، وليست لدينا أجندة سياسية للتدخل في شؤون الآخرين، بل أبوابنا مفتوحة لكل من يريد عقد مصالحة، أو رعاية في أوقات صعبة. دعوني أدلكم على خلاصة مهمة، نحن اليوم في موقع قوة، وهناك أطراف إقليمية -وشخصيات متعلقة بذيلها- مستاءة من تقدمنا على المسرح الدولي، وهم يحاولون جاهدين تعطيل جهودنا عبر تضليل الإعلام، ودعم مناطق التوتر المسلح في العراق ولبنان وفلسطين، واستئجار من يمكن من السياسيين والمرتزقة والكتاب في سبيل تسويق طروحاتهم التي تتستر وراء شعارات "المقاومة" و"الممانعة". فبالنسبة لهؤلاء فإن الانفتاح على العالم هو هزيمة ثقافية، وتقوية العلاقات بالدول العظمى هي تبعية للغرب، ومراجعة نظم التعليم هو تنازل للعدو، والتخلي عن سياسات العنف والتسلح هو تنكر للمقاومة، وطرح مبادرات السلام هو سعي وراء التطبيع مع العدو، وأخيرا، فإن مكافحة العصبية القومية والخطاب الديني المتشدد هو استرضاء للكفار، ونيل من العروبة والإسلام. برأيي، ان علينا أن لا ندافع ضد حملات التشويه، بل أن نهاجم وبضراوة أصوات خصومنا. هم الذين لديهم ما يجب أن يخجلوا منه، هم الذين يدبرون المؤامرات لاغتيال الآخرين، وتفجير الأطفال والنساء في الأسواق العامة في شوراع بغداد وبيروت. وهم الذين يريدون استدامة الصراع لتمتهن شعوب المنطقة عقلية الضحية والمؤامرة، وليعيثوا فسادا بأموال المساعدات الدولية، ولو كان الأمر بيدهم لمدوا أنابيبهم إلى آبار البترول -لأنه مال الأمة والمقاومة- وباعوه في السوق السوداء لأعلى مزايد. يجب أن تكون رسالتنا واضحة لهؤلاء من دعاة "العالم العربي القديم"، مصالحنا تأتي قبل الآخرين، وإذا أراد أحد دعمنا فيجب أن يستمع لنصيحتنا وأن يراعي حدوده في التعامل معنا، فنحن دولة القيادة وتقديرنا يفوق المصالح الضيقة للآخرين. أصدقاؤنا وحلفاؤنا هم كل المعتدلين في المنطقة، الذين ينشدون المصالح المشتركة، ويؤمنون بمشروع السلام والحوار، ونبذ التعصب الديني والمذهبي والقومي، ويطمحون للرفاه الاقتصادي المتبادل. وأخيرا، يجب أن لا يستهين أحد بقدراتنا على الرد الحازم ضد أي إساءة، معنوية كانت أو مادية، فهذه بلاد تملك خزاناً هائلا من الفخر الوطني، وهي ما تزال واقفة بشموخ منذ 76عاما، موحدة وقوية، لأنها ولدت لتبقى.