"خلق الله الإنسان بعينين، واحدة ليرى العالم، والثانية ليرى استانبول" كانت هذه الجملة أول ما استقبلنا في مطار استانبول، قالها محمد الاستانبولي، كان الظلام قد هبط على المدينة، ليس كهبوطه على بقية المدن، انه هنا يهبط تحت أضوائها، تحت مآذنها وقبابها، وليس ليغطي عوراتها كالمدن الأخرى، فليس فيها عورة، ليس فيها ما يخجلها، ليست في حاجة الى ستر، وكنت اقرأ رواية "ستر" للكاتبة رجاء عالم بما فيها من سماوات ومياه، في حين كانت زوجتي قد استعدت لهذه المدينة بقراءة أورهان باموك الذي حاز على نوبل باستانبول. انتظرنا الصباح لنرى إن كانت عين واحدة تكفي لرؤية استانبول. اعدنا النظر بأكثر من عين في جملة الاستانبولي، وكم بدت هذه الجملة ظالمة ومبتسرة. رأينا أن عينا واحدة لا تكفي لرؤية المدينة، وأن الإنسان ليس في حاجة الى عينه الأخرى ليرى العالم، فالعالم كله في استانبول. أنت في حاجة لألف عين وعين، ألف يد ويد، ألف قدم وقدم، ألف أذن وأذن، ألف لسان ولسان، وألف حياة وحياة. وكما في رواية "ستر" فإن يدا واحدة لا تكفي لاكتشاف ما يختبئ في جسدها، هذه المدينة او هذه المرأة التي لا تكف عن الصعود لأكثر من سماء. "مدينة ما خانها البحر ولم تخنه" قلتها وأنا أذكر ما كتبه المؤرخ الفرنسي الكبير عن اقتصاد العالم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في ذلك الكتاب كانت مكةالمكرمة "يا رجاء" واستانبول والبندقية أكبر مفاتيح العالم، ما زالت استانبول تحمل ذلك المفتاح وتحمل معه ذاكرة الشرق والغرب والديانات السماوية، تحمل لغات العالم وتحمل اسلاما لا تكف مآذنه ورجاله ونساؤه عن الصعود وعن الكبرياء والانفتاح. في قصر سلاطينها تجد ذاكرة البشرية، تجد كل الأنبياء عليهم السلام، تجد عصا موسى، وسيف داود وغيرهما وغيرهما، ذكرة قد لا تصمد أمام العلم والتحليل التاريخي، لكنها استانبول التي لا تبالي بما قد يقال، فهي وحدها التي تفرض على كل مقيم وزائر لغتها وذاكرتها وسطوتها. ولعل أخطر ما في هذه المدينة انها تمحو ما تقدم وما تأخر من صور في الذاكرة او أنها تحتل القمة على الأقل. لم يسؤني في استانبول الا الفندق المجاور لإقامتنا لأنه يحمل اسم إبراهيم باشا، قلت لزوجتي، لو لم يكن من فندق في هذه المدينة الا هذا لنمت في العراء، حدثتها عن تدمير الدرعية وتدمير قريتي وكيف كان يقص رؤوس المقاومين في بلادي ويرسلها في أكياس الى الباب العالي، وحين اشتدت المقاومة اكتفى بجز الآذان إلى أن دمر كل شيء. لم يسؤني الا انني تذكرت ان الرئيس الفرنسي وغيره من زعماء أوروبا يرفضون مصافحة استانبول، ادركت فعلا أن ثمة عفناً في أوروبا .. من قمة برج قالاتا ودعت هذه المدينة، واكتشفت انها تتحداك ان تراها، ان تضمها بين ذراعيك، وان ما حدث بيننا لم يكن الا كحديث عابر مع رجاء عالم.