تشير بيانات مصلحة الإحصاءات ودلائل أخرى كثيرة إلى أن معدلات التضخم في المملكة قد بلغت الذروة الصيف الماضي، ويتفق هذا مع انحسار موجة التضخم في العالم حاليا. ومن المتوقع أن يتباطأ نمو الإنفاق الحكومي خلال المستقبل القريب تبعا لانخفاض أسعار النفط، وهذا يسهم في انحسار موجة التضخم. من المؤكد (يعني المسألة ليست وجهة نظر) أن الارتفاع الحاد لإنفاق حكومات مجلس التعاون خلال السنوات منذ 2004سبب رئيس للتضخم. وحتى لا يساء الفهم، لم يكن السبب الرئيس الوحيد. يمكن استنتاج العلاقة السببية بين الاثنين من تعريف التضخم نفسه. التضخم يعني الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات، وبعبارة مكافئة الانخفاض المستمر في قيمة النقود. وهناك قناعة بين الاقتصاديين بأن التضخم (الداخلي، أو المستورد في موطنه) ينشأ من جراء تفاعلات بين متغيرات اقتصادية أهمها النقود (كميات النقود المتاحة بيد المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية والخاصة الربحية وغير الربحية والناس)، والإنتاج طلبا وعرضا. ارتفاع الطلب له أكثر من سبب وسبب، ولكن أقوى سبب في الدول النفطية الخليجية هو ارتفاع الإنفاق الحكومي، الممول من إيرادات النفط (المملوك للحكومات)، ومعظم هذه الإيرادات من الخارج، وهذه نقطة خلاف جوهرية في تأثير إنفاق تلك الدول، مقارنة بالإنفاق المعتمد تمويله على الضرائب المحلية. وبلغة الأرقام: توسع الإنفاق الحكومي توسعا كبيرا خلال الفترة 2003- 2007بنسبة 20% تقريبا سنويا، وارتفع عرض النقود ن 3خلال الفترة نفسها بنسبة 22% سنويا، بينما نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 5% تقريبا سنويا، ونما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للقطاع الخاص بنسبة تقل قليلا عن 7% خلال الفترة نفسها. ماذا يعني ذلك؟ توفرت السيولة، وتوسع الإنفاق الحكومي (وغير الحكومي) بما يتجاوز بوضوح طاقة الاقتصاد الاستيعابية، وهذا سبب رئيسي في انجذاب الأسعار إلى أعلى. ماذا عن توقعات التضخم للعام القادم؟ كما أسلفت، تشير الدلائل إلى أن التضخم قد بلغ الذروة الصيف الماضي، وأنه في انحسار. ولكن بنسبة ماذا؟ الجواب يعتمد على مدى قوة العوامل التي كانت وراء التضخم خلال الفترة الماضية. يتوقع أن يحافظ الإنفاق الحكومي على زخمه، ولكن بمعدلات نمو أقل خلال السنة القادمة، حتى لو انخفضت أسعار النفط إلى الأربعينات من الدولارات للبرميل، نظرا لوجود احتياطيات هائلة، لو طال عمر هذا الانخفاض سنين لتحول إلى مشكلة كبرى، ولكن من المستبعد حدوث ذلك. ومقابل هذا الزخم، هناك ركود اقتصادي عالمي متوقع بقية هذا العام والعام القادم، وقد عمل وسيعمل هذا الركود على الحد من ارتفاع أسعار الواردات، وأحيانا خفضها بنسبة ما، ولكن لن ينتقل كل هذا الخفض إلى المستهلك النهائي، نظرا لوجود عوامل كثيرة تقلل نسبة الخفض، مثل ضعف مرونة الطلب في كثير من السلع، ووجود احتكارات تامة أو احتكار أقلية وجمود الأجور. بإمكان الحكومة جعل المستهلكين يستفيدون أكثر من انخفاض أسعار الواردات عبر سلسلة سياسات تحسن المرونة لصالح المستهلكين وتزيد من المنافسة في السوق، ولكن لهذا ثمن، فقد تتأثر الجودة، والأمر بحاجة إلى مزيد بحث وبعد نظر. من المتوقع أيضا أن يؤثر الركود العالمي سلبا على الإنفاق الاستثماري (وكذلك الاستهلاكي) داخل المملكة. والخلاصة أن هناك قوى متضادة التأثير: أسعار الواردات والإنفاق الحكومي والإنفاق الاستثماري، ومن الصعب إعطاء توقع لمدى ثقل كل قوة على معدلات التضخم، استنادا إلى المناقشات النظرية وحدها، بل لابد من دراسات تطبيقية قياسية. هذا، وبالله التوفيق،،، @ بكالوريوس في الشريعة ودكتوراه في الاقتصاد