كثيرة هي المواقف المفرحة، وكذلك المواقف المحرجة، والمواقف المحزنة، ولكن يبقى هناك مواقف مبكية، تؤثر وتحز في النفس البشرية وتبقى عالقة ما بقي شاهدها. ومن تلك المواقف التي تألمت منها كثيراً هذه القصة الواقعية، التي يعود تاريخها إلى عام 1412ه فيما كنت منهمكاً ذات يوم خلف مكتبي بشعبة سجن الملز محاولاً تفكيك طلاسم المعاملات الجنائية التي تردنا بالعشرات يومياً، وإذا بتلك المرأة رثة الثياب برفقة أبنائها الثلاثة الذين لم تكن ثيابهم بأحسن حالاً من ثياب والدتهم، ولا تزال صورهم عالقة بذهني، تطرق باب المكتب على استحياء، أذنت لها وسألتها هل من حاجة لكم فأقضيها؟ فأجابت أن زوجها سجين وترغب بزيارته برفقة أبنائها، وعلى الفور قمت بواجبي وتأمين إذن الزيارة المطلوبة، تواروا جميعاً بعد استلام الإذن بالزيارة ولم تتوارَ صورهم التي لا ذنب لهم بتشكيلها إلا أنهم ارتبطوا اجتماعياً بعائلهم (السجين). وبعد أسبوعين من الزمان وفي نفس المكان، تعود الأسرة لغرض الزيارة نفسها ولكن بملابس أسوأ حالاً من المرة الأولى، مما دعاني لاستئذان المرأة وسؤالها: كيف تستطيعين تدبير أمور الأسرة؟ (خنقتها العبرة) قبل أن تخنقها صعوبة الإجابة، وبعد استجماع قواها أجابت: نحن نأتي من منطقة خارج مدينة الرياض ولم نستطع الوصول إلى السجن لزيارة زوجي السجين قبل أسبوعين إلا عندما بعت الثلاجة، قلت لها: ولكي تقومي بهذه الزيارة ماذا فعلتِ؟ قالت: بعت آخر ما تبقى لنا من أثاث يمكن بيعه، فقلت في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، كيف يستطيعون القيام بمواجهة أعباء هذه الحياة المختلفة، ناهيك عن القيام بالزيارات المقبلة، وما الذي تبقى لهذه المسكينة لتبيعه!؟ اللهم إنا نعوذ بك ونلوذ برحمتك ونسألك الستر والعافية.حاولت جاهداً أن أخفي دموعي وليس مهماً استطعت ذلك أم لا، فالمهم أن يعرف الجميع عامة وقضاتنا الفضلاء على وجه الخصوص - حيث أنهم المناط بهم إصدار الأحكام الشرعية لعقوبة السجن - أن الدراسات المتخصصة في الأحوال الأسرية للسجناء كشفت نتائجها عن أن 92% من زوجات السجناء يشتكين من المشكلات المادية بعد دخول عائلهن السجن، وأن 75% منهن يعانين من البطالة، كما أكدت النتائج تعرض أسرة السجين للعديد من المشكلات الاقتصادية والصحية والاجتماعية والنفسية كفقدان الثقة بالنفس والحرمان العاطفي والقلق، مما يؤدي بالتالي إلى انحراف أسرة السجين خاصة الأبناء والاتجاه نحو تعاطي المخدرات، والفشل الدراسي وإثارةالشغب وارتكاب السلوك الإجرامي المؤدي إلى السجن ! - جعلوني مجرماً - ختاماً: إخواني رجال القضاء الأعزاء، نعرف جيداً كما تعرفون "فائدة السجن" ولكن هل تعرفون كما نعرف "كارثة السجن"! نعرف جيداً كما تعرفون أن بعض مرتكبي الفعل الإجرامي يستحقون إيداع السجن، بل إنه العلاج الأوحد أحياناً لهم خاصة لأرباب السوابق، ولكن هل تعرفون كما نعرف أن كثيرا من مرتكبي السلوك المنحرف يمكن علاجهم بتفعيل تطبيق بدائل عقوبة السجن خاصة لمرتكبي السلوك المنحرف لأول مرة. وينبغي ألا يفهم من هذه الرسالة الصادقة أننا نتجاهل فكرة وهدف العقاب، فهذا تشريع إلهي حكيم، ولكن الذي نرمي إليه هو إعمال العقل في التفكير في إجراءات جزائية ووقائية في آن واحد. وذلك لتحقق العقوبة الهدف الإصلاحي الشمولي. ولكن تخترق هذه الرسالة القلب، فلنتخيل يوماً ما - لا قدر الله - أن أحدنا صدر بحقه حكم يقضي بسجنه عدة سنوات! ما حال أسرته من بعده؟ @ مدير إدارة الشؤون العامة بالمديرية العامة للسجون