مثلما شكل ال 11من سبتمبر 2001منعطفاً في التحولات السياسية العالمية توجت الولاياتالمتحدة على أثر الأحداث التي تلته كامبراطورية عالمية تسير بيدها الطولى أمور هذا الكون حسب ما يتفق ومصالحها، فإن الأزمة المالية الأمريكية التي تفاقمت حدتها بالمصادفة في نفس الشهر من هذا العام 2008، ربما تشكل بداية التراجع للقوة الاقتصادية الأمريكية. فالأمر هنا يعتمد على مدى الخسائر والأضرار الاقتصادية التي سوف تلحق ببقية بلدان العالم جراء الأزمة التي انطلقت شرارتها من نيويوك. ومثلما نلاحظ فإن المرونة الاقتصادية والسياسية التي تتمتع بها أمريكا تساعدها، في كثير من الأحيان، على الخروج من العديد من الأزمات التي تحل بها. فلقد رأينا في السابق كيف تمكنت الولاياتالمتحدة من التغلب على الكساد الذي أصابها عام 1929، والذي بدأ للوهلة الأولى كما لو أنه سيدمر قدرتها الاقتصادية. فبعد الحرب العالمية الثانية، أي بعد 16سنة على ذلك الكساد، بهرت أمريكا العالم بمدى الجبروت والقوة الاقتصادية التي وصلت إليها عندما تقدمت بمشروع مارشال لإعادة بناء أوربا. كذلك نلاحظ الآن أن أفلاس العديد من المؤسسات المالية الأمريكية وتراجع مؤشر داو جونز خلال الشهور الثلاثة الماضية بنسبة 25%، قد ساهم في تردي مؤشرات أسواق المال العالمية بنسب تتعدى ما حدث في وول ستريت. فلقد انخفض مؤشر السوق المالية الألمانية داكس XETRADAX بنسبة 28%، ونيكي الياباني NIKK225 بنسبة 37%، والبوفيسبا البرازيلي BOVESPA بنسبة 41%، والروسي RTSI بنسبة 61%. كما تراجع مؤشر البورصة في شنغهاي بنسبة 30%. أما في البلدان النامية، ومنطقة الخليج فحدث ولا حرج. ولذا نرى أن انفاق الأوروبيين على معالجة أزمتهم المالية ترهقهم بصورة أكبر. فالمبالغ التي خصصتها ألمانيا لمعالجة ما حل بها مثلاً، والتي تتراوح ما بين 400إلى 536مليار دولار، تقتطع ما نسبة 12% إلى 16% من الناتج المحلي الاجمالي الألماني- في حين لا تشكل النفقات الأمريكية البالغة 700مليار دولار سوى 5% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. أما في بريطانيا فإن خطة الانقاذ، البالغة 835مليار دولار، تشكل 30% من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة. الأمر الذي يشير إلى أن الأضرار التي أصاب الاقتصاد العالمي جراء الأزمة المالية في أمريكا هي، حتى الآن، أشد وطأة بالمقارنة مع الخسائر التي لحقت بالولاياتالمتحدة. ولكن إذا كان من المبكر تحديد مدى الخسائر النهائية التي سوف تلحق بأمريكا وبقية بلدان العالم جراء هذه الأزمة المالية الطاحنة، فإن بعض الخطوط العريضة للنظام المالي العالمي القادم قد بدأت تلوح في الأفق، وذلك على الرغم من أن ألوان هذه الخطوط سوف تعتمد بالتأكيد على النتائج التي سوف تسفر عنها المعركة المالية الضارية الدائرة رحاها بين الدول الصناعية الكبرى. فالوفد الأوروبي، الذي توجه إلى الولاياتالمتحدة بزعامة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي تترأس بلاده الآن الاتحاد الأوروبي ورئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل بارسو، قد اتفق مع الرئيس الأمريكي بوش على ضرورة إجراء تعديلات على النظام المالي والاقتصادي العالمي. وإذا كان الأوربيون والامريكيون يتحفظون على تفاصيل ما تمت مناقشته فيما بينهم فلربما تلقي تصريحات سيرغي ساناكويف، رئيس مجلس إدارة مركز التعاون الاقتصادي الروسي الصيني، بعض الضوء على طموحات القوى الجديدة التي تطمح إلى تقاسم الخيرات العالمية مع الولاياتالمتحدة. فلقد صرح ساناكويف ان تحقيق مزيد من التقارب المالي بين روسيا والصين من خلال التخلي عن اعتماد الدولار الأمريكي أكثر أهمية من الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. وهكذا فإن أحد النتائج التي قد تتمخض عنها الأزمة المالية العالمية الحالية ربما تكون ظهور عملات احتياط عالمية جديدة تتنازع مع الدولار المنزلة والمقام. فما هي هذه العملات التي سوف تدخل حلبة المنافسة وما هو تناسب أوزانها في سلة احتياطي النقدي العالمي المستقبلية؟ هذه الأسئلة وغيرها سوف تكون ربما محور النقاش القادم بين الدول الصناعية الكبرى، في جولة بريتون وودز 2، والتي سوف تعرض نتائجها، على ما يبدو، على القمة العالمية التي دعا إليها الرئيسان الفرنسي والامريكي من أجل إقرارها.