أي متابع للمشهد الاقتصادي العربي سيتوقف كثيرا عند حالة الانفصام الواضح ما بين تصريحات المسؤولين الوردية الواثقة من ابتعاد الاقتصاديات العربية عن عواصف الأزمة العالمية، وبين مخاوف المستثمرين ودوائر المال والأعمال التي تبدت بوضوح في التراجع الكبير للأسواق المالية العربية خلال الأيام الماضية. غير أن هذه الحالة لها بالفعل ما يبررها. فالاقتصاديات العربية ونتيجة عوامل عديدة ظلت في "المنزلة بين المنزلتين" فلا هي تضررت بشدة من الأزمة المالية في الغرب ولا هي ظلت بعيدة تماما عن تداعياتها. فالاستثمارات العربية في المؤسسات المالية الأمريكية وقطاع العقارات في الولاياتالمتحدة تضررت بشدة. والبورصات العربية تأثرت كثيرا بانسحاب الأموال الأجنبية التي عادت إلى بلادها لتغطية المراكز المالية لمؤسساتها في ظل أزمة الائتمان. في المقابل ظلت البنوك العربية بشكل عام بعيدة عن الآثار المدمرة للأزمة المالية العالمية بسبب الضوابط الحكومية المنظمة لعمليات الإيداع والإقراض في تلك البنوك فلم تعانِ البنوك من ظاهرة الديون المعدومة. ونقلت إذاعة دويتشه فيله الألمانية في موقعها على الإنترنت عن إيكارد فورتس، رئيس القسم الاقتصادي لمركز الخليج للأبحاث في دبي بأن تحفظ البنوك الخليجية فيما يخص الاستثمارات في المجالات عالية المخاطر في الأسواق الأجنبية حدّ من تداعيات الأزمة الغربية عليها. ويرى فورتس أن أسباب الهزات الطفيفة في أسواق المال الخليجية قد تعود إلى أنشطة المؤسسات الحكومية الخليجية في الخارج، مثل الإيداعات الحكومية التي ربما تكون قد استثمرت في السندات الأمريكية المحفوفة بالاضطرابات. لكنه يرى أن الأمر هناك ليس خطيراً نظراً لأن سيولة الإيداعات الخليجية مضمونة من عائد قطاعات أخرى كتصدير النفط. ويضيف أن المشكلة الوحيدة قد تكمن في ارتفاع الأسعار في الأسواق المالية. ويقدر حجم الإيداعات الحكومية الخليجية التي تم استثمارها في الأسواق العالمية بحوالي 8.1مليارات دولار، كما يقول فورتس وهو مبلغ ضئيل بالفعل. أما في لبنان فقد أكد وزير المالية اللبناني محمد شطح أول من أمس الاثنين استقرار النظام المصرفي المحلي رغم حالة القلق التي تثيرها الأزمة المالية العالمية بين اللبنانيين. وقال شطح عقب استقبال الرئيس اللبناني ميشال سليمان له في قصر بعبدا الرئاسي إن العملة اللبنانية والقطاع المصرفي اللبناني آمنان، مشيرا إلى أن حجم الزيادة في الودائع بالبنوك اللبنانية حتى نهاية أيلول/سبتمبر الماضي تجاوزت سبعة مليارات دولار وهو مؤشر على أن الموقف المالي للبنان آمن. في الوقت نفسه قلل وزير المالية الأردني حمد كساسبة من خطورة تأثير الأزمة المالية العالمية الراهنة على الاقتصاد الأردني. وقال كساسبة إن الجهاز المصرفي الأردني بعيد عما يحدث في العالم، بسبب قلّة التشابكات بينه وبين نظيره العالمي، وبالتحديد في الولاياتالمتحدة وأوروبا. وأشار الوزير الأردني إلى أن الرقابة الصارمة من جانب البنك المركزي على البنوك التجارية في الأردن ومعدل نمو الاقتصاد الذي وصل إلى حوالي 6% خلال النصف الأول من العام الحالي ونمو احتياطي النقد الأجنبي للأردن بنسبة 13% منذ بداية العام الحالي ليصل إلى 7.5مليارات دولار ساهمت في الحد من تداعيات الأزمة العالمية على الاقتصاد المحلي. وقال إن الاضطرابات الحالية في أسواق الأسهم العالمية لن يكون لها تأثير مباشر أو غير مباشر على بورصة عمان للأوراق المالية. وفي مصر قالت مصادر رقابية رسمية إن المرحلة الثانية من خطة الإصلاح المصرفي التي يعتمدها البنك المركزي المصري تحمل توجهاً لإقامة نظام حديث للتأمين على الودائع، ما يفتح الباب أمام تطبيق آلية إشهار إفلاس البنوك غير المنضبطة، دون أن يؤثر ذلك على صغار المدخرين، وهي الآلية التي ظل البنك لعقود يحرص على استبعادها، ويساند البنوك المتعثرة من خلال عوائد الودائع البنكية المتراكمة لديه. وأوضحت المصادر أن الأزمة المالية العالمية كانت السبب الرئيسي في تغيير قواعد اللعبة، حتى يتمكن الجهاز المصرفي من التنافس بكفاءة على المستويين الدولي والإقليمي لافتة إلى أن البنك المركزي استبق الأزمة المالية العالمية الحالية، باتخاذ عدة خطوات احترازية، حالت دون تأثر القطاع المالي وأسواق النقد سلباً. وأكدت المصادر، وفقا لما نشرته صحيفة "المصري اليوم" اليومية المستقلة، أن مصر كانت ستواجه موقفاً حرجاً للغاية لو حدثت الأزمة الحالية قبل بدء إجراءات الإصلاح المصرفي في عام 2004، منبهة إلى أهمية توحيد جهة الرقابة على جميع أسواق المال. ودعا الأمين العام لاتحاد المصارف العربية الدكتور فؤاد شاكر الى عدم المبالغة فى تقدير تداعيات الازمة المالية العالمية على العالم العربي مؤكدا انه "علينا الا نخشى كثيرا من عدوى انتقال الأزمة لاختلاف أسباب المشكلة بين هنا وهناك". وأوضح فى مقابلة نشرتها مجلة "آخر ساعة" الاسبوعية المصرية الفروق الكبيرة بين "شح السيولة" و "شح الملاءة" موجزا ان ما حدث للبنوك الأمريكية هو شح الملاءة الذي يعني ان البنك فقد جزءا من رأسماله نتيجة خسائره المالية ما أدى إلى شح السيولة بالبنوك الأمريكية. وقال شاكر إن "ما يحدث فى المنطقة العربية هو شح سيولة فقط" وهو ما لا يمكن أن يتحول الى شح ملاءة منوها بتدخل البنوك المركزية فى العالم العربي واهتمامها بالسلامة المصرفية واتباعها سياسات تصويب المسار وفق معايير دولية جديدة. وأكد أن مشتريات المصارف العربية لأوراق البنوك الأمريكية تقل عن اثنين في الألف من إجمالي أصولها موضحا ان "البنوك العربية التى اشترت هذه الأوراق استطاعت ان تعالج أوضاعها من دون اللجوء الى البنوك المركزية". ولفت شاكر إلى أن أسعار العقارات في العالم العربي مازالت منخفضة نسبيا وفي حدود إمكانية تغطية طلب حقيقي على الإسكان سواء من شركات أو أفراد مبينا انه مع ذلك تدخلت البنوك المركزية العربية لإصدار قرارات أو قواعد تحول دون الإسراف في التمويل العقاري. واعتبر أن الازمة المالية العالمية بدأت نتيجة لارتفاع مغالى فيه في اسعار العقارات بما لا يتناسب مع العرض والطلب الحقيقي في امريكا مشيرا الى ان "أي زيادة في اسعار العقارات في المضاربات كانت تخلق حالة من التفاؤل غير المستند الى واقع يؤدي الى مزيد من زيادة الاسعار". ورأى شاكر أن "الكارثة" بدأت عندما عجزت الشركات عن تسويق واعادة بيع هذه العقارات نتيجة لارتفاع الاسعار المغالى فيه وكذلك تراجع القدرة الشرائية لمشتري العقارات من ناحية اخرى ما ادى الى انتقال العدوى الى سائر المؤسسات المثيلة. ولكن محمد الحسين وزير مالية سورية قال في تصريحات نشرتها وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) إنه "في وطننا العربي تتأثر الاقتصاديات العربية بهذه الأزمة وخاصة تلك الاقتصاديات المفتوحة أمام تقلبات الاقتصاد العالمي، فقد تعرضت أسواق المال في الدول العربية خلال السنتين الأخيرتين وبعد أزمة الرهون العقارية إلى تراجعات كبيرة وتذبذبات في مؤشرات الأسواق المالية وخسرت الأسواق المالية العربية مئات المليارات من الدولارات ومؤخراً أعلن في الإمارات العربية المتحدة أن خسائرها تجاوزت ال 300مليار درهم إماراتي". وأشار الحسين إلى القلق الكبير على الأموال العربية المودعة في المصارف والمؤسسات المالية الغربية وخاصة الأمريكية وكذلك الاستثمارات العربية سواء للأفراد أو للصناديق السيادية العربية او شركات الاستثمار العربية في الغرب. وأعرب الوزير عن اعتقاده بأنها ستمنى بخسائر كبيرة وبالتالي فان هذه الأزمة المالية كلفت الدول العربية أكبر بكثير مما كسبته من جراء ارتفاع أسعار النفط في الفترة الأخيرة، "لذلك كنا ندعو دائماً إلى استثمار الأموال العربية في مناطق أخرى في العالم وخاصة في الوطن العربي ذاته". وهناك خبراء مصرفيون يرون أن بعض مشاريع دبي الإنشائية المسرفة في البذخ مثل الأسواق التجارية الضخمة والجزر الصناعية التي تتحدى طبيعة الخليج المائية، وأماكن الترفيه، من الممكن أن تتوقف إذا لم يتم تمويلها. حيث إن الأزمة المالية من الممكن أيضا أن تقلل الطلب من المشترين الذين سيواجهون وقتا عصيبا للحصول على رهونات. وسيكون التقلص شديدًا إذا ساءت الأزمة المالية في الغرب. حيث إن أسعار العقارات والإيجارات، والتي مازالت ثابتة حتى الآن، من المتوقع أن تبدأ في الهبوط قريبًا. ومع ذلك يمكن القول إن دبي مازالت منتعشة في مواجهة الأزمة المالية في المناطق الأخرى بفضل ميزانية ضخمة وفائض في رؤوس الأموال، وقدرة الحكومة واستعدادها لضخ كم هائل من النقود في النظام المصرفي من أجل حل المشاكل الائتمانية. وإذا كان لأي أزمة "وجه مضيء" كما يقال فإن الأزمة المالية العالمية يمكن أن تتحول إلى فرصة جيدة بالنسبة لبعض الدول العربية الباحثة عن الاستثمار مثل مصر ولبنان ودول المغرب العربي. ففي ظل حالة الاضطراب الشديد التي تتعرض لها أسواق الاستثمار التقليدية في أمريكا وأوروبا يمكن لدول مثل مصر ولبنان والجزائر وتونس أن تطرح نفسها باعتبارها مقاصد استثمارية آمنة للاستثمارات الخليجية والدولية التي تبحث عن مقاصد لها. وبالفعل تعتزم وزارة الاستثمار المصرية إطلاق حملة ترويجية في الخارج بهدف جذب الاستثمارات سواء للمصريين العاملين في الخارج أو العرب بعد الأزمة المالية التي لحقت بالاقتصاد الأمريكي وأثرت سلباً على مختلف الاقتصاديات الأخرى. وقالت مصادر في وزارة الاستثمار إن هذه الخطة تبدأ من أمريكا إذ تستعد قيادات في وزارة الاستثمار للقيام بزيارة الى واشنطن في نهاية الشهر ولقاء مسؤولي البنك الدولي لبحث الوسائل المتعلقة بالحد من الأزمة المالية التي تتعرض لها أسواق المال في الدول النامية، فضلا عن طرح فرص استثمارية في مصر على المستثمرين المصريين العاملين في أمريكا تتمثل في مشروعات التصنيع الغذائي وتجارة التجزئة.