تتراكم التجارب الإنسانية عبر صراع هو من طبيعة الحياة ومن ضرورات البقاء. من يقوى على البقاء ليس من يملك روح التواكل والهزيمة والخوف من التحدي، ولكن مواجهته بالعلم والمعرفة والعمل والكفاح المستمر، تلعب خريطة المجتمعات الذهنية دوراً كبيراً في بناء خبرات وتجارب الفرد، وظروف وعناصر التحدي في تلك المجتمعات تصنع طابعاً آخر له علاقة بمعنى البقاء أساساً ناهيك عن الخروج من شرنقة التوقف، المجتمعات التي تضخ في أوردة وشرايين أبنائها هذا المعنى، ويصبح له حضور في مشهد التفوق، هو من يقوى على البقاء ويقدم الكفاءة والكفاءة وحدها لسلم قيادتها، ومن يركن فقط لفكرة الانتساب لتلك المجتمعات تحت وهم القوة أو الحصانة أو الحضور تضمر لديه حاسة الاستجابة وربما لدرجة الانطفاء. مازلت أؤمن بدور الفرد في صناعة التاريخ، يتراجع دور الفرد أحيانا في ظل دولة المؤسسات، لكنه لا يضعف، المؤسسة تقدم الفرد المتميز لدفة القيادة، والقيادة تقوي دور المؤسسة بأدوارها التي تجعل من المؤسسة مصنع مبادرة لا مصدر جمود وتوقف. غياب دور الفرد في ظل المؤسسات غير دقيق، المؤسسات أيضا شاهد على دور الفرد حتى في إعادة صياغة المؤسسة وضخ الحيوية في مفاصلها. والمؤسسات الحيوية تفرز أيضا عناصرها القيادية، وتظهر آثار ذلك الفرز في قدرتها على مواجهة التحديات عبر تقديم القادة المميزين لإدارة عجلة القيادة على اعتبار عنوانه الرئيس الكفاءة، والكفاءة وحدها. هذا في مجتمعات للمؤسسة فيها حضور كبير، فما هو الحال في مجتمعات لم يتبلور دور المؤسسات الى درجة أن تصبح بيئة لانتاج الأفكار والمبادرات والقيادات. تكمن قدرة الفرد في صياغة مرحلة خاصة أو عامة في قدرته على الاستجابة للتحديات. ليس ثمة خطر أكبر من غياب الاستجابة للتحديات في عقلية الفرد أو الجماعة. الاستسلام سمة الجمود والخنوع والبلادة. والبقاء في دائرة اللافعل عنوان كبير للعجز. كل الذين صنعوا عالمهم المثير للاعجاب خاضوا عالما من التحديات بروح الاستجابة لا بروح الاستسلام. قاسوا معاناة الفشل والإحباط والتراجع لكن ظلت تتحرك داخلهم على الدوام روح الاستجابة للتحديات عبر المعاودة والتكرار والبحث والعودة أيضا إذا تطلب الأمر إلى نقطة البداية. المجتمعات المتفوقة والمتقدمة والتي تفرض شروطها على عالم اليوم بكل الوسائل، لم يكن تفوقها في تفوق الإنسان الغربي أو تميزه بخاصية لم تخلق سوى فيه. بل تلك المجتمعات ترزح اليوم تحت عبء مشكلات كبرى، تهدد قدرة تلك المجتمعات على متابعة الوثب ومقاومة التآكل. ضعف التحديات ونمو دولة الرفاء أفرزت أجيالاً لم تواجه التحدي الذي واجهته أجيال سابقة.. دولة الرعاية الاجتماعية التي أخذت تئن من عبء الرعاية وانتشار المخدرات وتزعزع البنى الاجتماعية الصغيرة.. ولد مشكلات بالغرب تصل الى حد التأثير في قدرته على الاستمرار في تفوقه وتقدمه.. إلا أن هذا الغرب يتمتع بعقل إداري متميز، عماده طبقة معتبرة في قيادة تلك المجتمعات، جعلت الرهان اليوم يتوجه نحو استيعاب القدرات المهاجرة من كل دول العالم من الصين والهند وكوريا وغيرها لتأخذ مكانها في تلقيم عجلة التقدم بدماء جديدة وعقول متوثبة وسواعد عاملة جاءت بتحدياتها من مجتمعات أقل تقدما او مازالت في عدد التخلف.. المشترك بين تلك المجتمعات المصدرة لقواها النشطة أو سواعد أبنائها القوية.. هي تلك الامكانات الفردية المتوثبة التي تصنعها روح التحدي وامكانية الاستجابة.. روح التحدي تساهم في صناعتها البيئات الصعبة التي تفرز تلك الخاصية الفردية التي تطال عناصر فردية لا ترى الحياة سوى فاصل دقيق بين الموت أو الحياة.. بين أن تكون أو لا تكون.. فكانت استجابتها أكبر لمواجهة تلك التحديات بالعلم والتدريب والعمل الشاق حتى أصبحت عملة نادرة تستقطبها دول الغرب بلا تردد وتدعوها بلا كلل وتقدم لها حوافز وشروط البقاء بلا احتياطات.. وهي تراهن على أن ضخ الدماء الجديدة في شرايين الغرب العجوز المتقدم هي ضمانة ايضا لإبقائه على قيد التفوق. لن يغلق الغرب أبواب الهجرة إليه لأنه يدرك أنه بحاجة لروح الاستجابة التي تخلقها تحديات أخرى بعيدة عنه، ولكنها تصنع عالم التفوق فيه ولمصلحته في النتيجة النهائية. اليوم تبدو ظاهرة باراك أوباما، المرشح الديمقراطي للسباق على رئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية، من أبرز الظواهر في ذلك الإدماج الذي تتميز به عقلية إدارة الغرب، انها قمة هرم السلطة التي تعلن بجلاء ان ثمة مقعدا شاغرا لشخصية استثنائية سخرت الشعب الأمريكي بتفوقها وأدائها ومميزاتها لدرجة الثقة بقدرتها على تحقيق وعودها في التغيير.. هكذا تصل الدماء المدمجة في نسيج مجتمع انجلو - سكسوني صنع مجده الآباء الأولون، لكنه أدرك أن بقاءه وقوته ليست بالحفاظ على نقاء دم القيادة الانجلو - سكسوني، بل باستيعاب تلك القدرات المميزة حتى لو وصلت عرقياً من مجاهل افريقيا السوداء. قبل باراك أوباما جاء بيل كلنتون، ولم يكن هو المنتمي جذوراً لتكوين اجتماعي له نفوذه وتاريخه أو حضوره. كفاءته وتميزه قاداه للترقي عبر آليات الحزب السياسي وصولاً إلى حاكم اركنساس ثم إلى فترتين رئاسيتين للولايات المتحدةالأمريكية. وإذا كان هذا تحقق في الداخل وعبر سلسلة من الاعتراف بالتميز الشخصي وفتح نوافذ التحدي وتقدير الاستجابة.. فإن الصورة تبدو واضحة وجلية باستقبال العقول المهاجرة واستقطاب الكفاءات المميزة وادماجها في سلسلة انتاجية لها مقوماتها وشروطها وادارتها التي مازال الغرب يعلن انها جزء معتبر من انجازه. لم يقف الغرب عند نقاء العرق ولا عقلية الانغلاق على الذات لكن سلم مصاعد الترقي، ومراتب الادارة العليا، ومعامل الانتاج الفائقة الدقة، للأكثر براعة حتى لو وصل من اقاصي الهند أو بلاد الصحراء البعيدة أو سفوح الجبال النائية طالما هذا الغرب يمسك بزمام المشهد الاداري والسياسي في مجتمعه.. لن يقوى الغرب على قفل باب الهجرة أو يتوانى عن استقطاب الدماء الجديدة لأنه يدرك انه يتراجع حتماً ولكن ببطء إذا ما احتبست الدماء الجديدة عن التدفق في شرايين الانتاج والابداع والابتكار، وهي التي تقودها محركات روح التحدي ورد فعل الاستجابة. استدعي هذا، وأتساءل كيف يمكن لنا ان نقدم الكفاءات وسط مؤشرات توقف الاستعداد الشخصي والذاتي للتحدي؟ الكفاءة لا تعني المؤهل التعليمي، وهو ليس سوى جزء ضئيل من مقومات الكفاءة، والشهادة الدراسية اصبحت تؤخذ بالضرورة عبر مسار يصمم للفرد المحاط بالعناية والاهتمام منذ البدء وليست بالضرورة أن يكون ثمرة كفاح ومثابرة واستلهام حالة نجاح متواصلة. التأهيل العلمي له أهميته الكبرى لكن روح التحدي والابداع والاستمرار في بناء عالم التفوق هو المهمة الأصعب. في كل مجتمع يجود الزمن باستعدادات شخصية مميزة لكنها تضعف أو تتراجع أو تتوقف. وذلك لعاملين، أما انها تنمو وسط حالة من الرفاه والعناية الفائقة حتى تتوارى عناصر التحدي فتضمر محفزات الاستجابة.. أو انها تملك تلك المقومات لكن تئدها بيئة ثقافية واجتماعية وادارية إلى درجة أن تغلق نوافذ الاستجابة حتى تضمر قدراتها أو تهاجر بعيداً لعالم آخر يضمن فرصة اطلاق تلك الاستجابات أمام تحديات البقاء. الأجيال التي لم تصطدم بالجبل لن يكون في مقدورها ان تعاود محاولة الصعود مرات ومرات مهما بلغت المشقة والعناء والتحديات. يقول المثل الافريقي "أكثر التجارب قدرة على صقل الرجل تلك التي يصطدم خلالها مع الجبل".. العضو غير المستخدم يضعف ويصاب بالخمول.. فإذا انعدمت عناصر التحدي أصيبت ملكة الاستجابة بالخمول والكسل حتى تصاب بالعطالة الدائمة. ينمو نوع من خلايا المخ المحيطة بقشرة الجمجمة الداخلية وتزداد سماكتها مع عراك تحديات اليومي وبناء التجارب والخبرات ومكابدة المعاناة من أجل الوصول إلى الأهداف التي تمثل تحدياً فردياً مستمراً لكنه تحد خلاق.. وكما تضمر خلايا القشرة المخية التي تزداد كثافتها مع الدربة والمران ومواجهة التحديات وهي التي تحتوي على مراكز التفكير والتحفز والقلق والقدرة على المحاكمة وصنع القرار.. كذلك تضمن قوى المجتمع وقدرته على التفكير عندما نتولى التفكير بالنيابة عنه، وتحتبس أمام تحديات الواقع منافذ الاستجابة ومتطلبات اطلاقها. ما الفرق بين الوصاية على الفرد وإغلاق منافذ التحدي أمامه لدرجة أن تضمر خلايا مخه القشرية المسؤولة عن تنمية عناصر التفكير والمبادرة والاحساس بالخطر والمحاكمة حتى تنتج الأسرة الصغيرة فرداً عاجزاً عن التحرك أو مرونة الأداء أو استخدام ملكاته الشخصية في تحفيز عناصر الاستجابة في شخصيته.. وبين الوصاية على مجتمع بأكمله والتفكير بالنيابة عنه حتى تضمر قواه وتختفي فاعليته وتتراجع مواهبه ويصاب بالعطب والعطالة. تضمر قدرات النشء ويصاب الهشاشة عندما يفكر والداه بالنيابة عنه بكل شؤون وعندما لا تمثل الحياة بكل عناوينها تحديا ولو كان صغيراً.. حتى ان البعض يرسم لأبنائه ملامح مستقبلهم بكل مراحله.. انها الوصاية التي تأخذ النشء من مراحل التكوين الأولى دون أن يمر بتجارب (المطبات) الصغيرة ناهيك ان يصطدم بالجبل.. وفي وقت متأخر عندما تبدأ التحديات الكبيرة ويرى الجبل سداً منيعاً أمامه بلا خبرات الصعود ولا تجارب التحدي ولا معاودة الجلد للوثوب وفي وقت متأخر وربما متأخر جداً لا يقوى على الصمود ولا المحاولة من جديد وربما لا تبق من خيار سوى الذبول والضمور تحت سفح الجبل. وكذلك هي المجتمعات التي تعيش تحت حد الوصاية الدائمة والتفكير بالنيابة، إلى درجة أن تضمر خلايا مخها القشرية المحفزة للمبادرة والفعل والحركة والحدس والقلق من أجل البقاء لتذوي في النهاية فعاليتها وربما تقضي تحت سفح الجبل شيئاً فشيئاً. كل جيل يملك قدرته على مواجهة عناصر التحدي بفعل الاستجابة. هناك فوارق طبيعية بين البشر، لكن المؤكد أن انطفاء حاسة الاستجابة والاستسلام أمام التحديات لدرجة الجمود والتوقف.. لم يكن وليد لحظته انه ضمور قديم راكمه انحسار مساحة الاصطدام بجبل التحديات.