كهيجان العواصف تسير لا رادّ لها حاملة الفناء والموت، تسير وفي سيرها ينبض القهر والألم والرعب. تسير والأيادي الضخمة تدير محركها، يمينا ويسارا .تقلع الأبنية كما الأرواح. لا صوت إلا بضعة أفراد يتجمعون، خلف الجدار ينددون، المجتمع الدولي تقوده دول الحصانات الدولية من كل جريمة ما كبرت وما صغرت. لم يسلم المسجد الأقصى منها، ولم تسلم حارة ولا مكان ولا زرع من تلك الجرافات. العلاقة أصبحت أزلية بين الفلسطينيين والجرافات، لستين عاما وكل يوم هناك جرافات تسير على القلوب قبل الأجساد ولها سجل يومي بكل دقيقة هناك جرافات تمر، يمينا وشمالا، شرقا وغربا .تنتهك الأرض وما عليها وتحرسها الطائرات. والكل في صمت. على مدى عشرات السنين كانت الجرافات الإسرائيلية تجول بين الحقول، تجرف بساتين الزيتون، وتحرق في دخانها الهواء عن الفلسطينين. تدك البيوت وتسوّيها أرضاً، وبين هذا وذاك تتناثر الأرواح. راشيل كوري ليست بعيدة عن الذاكرة، جرفتها وزملاء لها الجرافات الإسرائيلية أثناء وقوفها لمنع الجرافات من هدم البيوت الفلسطينية. وكل يوم عند جدار الفصل العنصري يقف الآلاف كما وقفوا من قبل في جنوب أفريقيا ينددون ومن ثم تفرقهم الجرافات. هي الحكايات الكثيرة التي لا تنتهي إلا بانتهاء الظلم. الجدار بني على الأراضي التي زرعها أجداد فلسطينيي اليوم وعلى بيوتهم التي بنوها بعرقهم وليالي الشقاء وبلحظات تصبح أثراً بعد عين، ويصبح مشوار المدرسة لصبي في الثامنة بدلا من ربع ساعة أصبح ساعتين ناهيك عن الخوف الشديد في كل لحظة من رصاصة تطلق، قد يذهب الصغير ويعود بعاهة إن لم يصبح شهيداً. محمد الدرة ليس ذكرى قديمة . الجرافات التي عاش الأطفال على منظرها تهدم هنا وهناك وأياديهم الصغيرة تبحث عن دفتر مزق هنا أو لعبة تكسرت هناك. صوتها وصوت الأشجار المتكسرة وتكتكات الأرواح المتناثرة جراء دهسها لم يكن غريباً على الأذن الفلسطينية ..، ليست بعيدة عن الفلسطينيين، وصوتها ليس غريبا على آذانهم. هذه الجرافات تذكرتها الأيدي الفلسطينية، فأصبحت وسيلة عفوية للدفاع عن النفس، ليس نفس الذي يركض ويمتطيها ثم يدهس بها، ولكنه يدافع من خلالها عن أنفس لم تدهس بعد وأرواح لم تزهق بعد، فقد شبعت جنين والقدس ورام الله وغزة وكل بقعة من فلسطين ما بلع وما لم يبلع بعد. هذا الوحش المرعب للفلسطينيين، هذا التنين الذي ينثر الدمار والنار، مسكوه، وجرّوه. سيطروا عليه كما أُرعبوا به أرعبوا. أذاقوا من أذاقهم الحزن والقهر والألم، لكنهم لم يهدموا بيتا وما قلعوا شجرة .كل الذي فعلوه أنهم بثوا الرعب هنا وهناك، ردوا شيئا من بضاعة القهر والحزن لبائعها .ولكن البائع لايريد أن يشتري نفس البضاعة، أنه يريد ارضاً صفصفاً بلا شجر ولا بشر .. إنها الداء، فهل تكون الدواء، وترد بعضاً يسيراً من البضاعة ؟