مع اندلاع الحرب بين جورجيا وروسيا اختلف الناس في مواقفهم واستجاباتهم من النقيض الى النقيض، ورأيت أنني أختلف مع كل هؤلاء الذين اختلفوا فيما بينهم جملة، ولدي لذلك أسباب كثيرة! تصور البعض في عالمنا العربي، أن هذه الحرب لا تعنينا كثيراً، وأنه ليس هناك داع للاهتمام المتزايد بها ورصد تداعياتها، وهو موقف غابت عنه الحقائق، فضلا عما ينطوي عليه من انهزامية واضحة، وليس لهذه الأسباب أخالفهم الرأي.. واتجه بعض آخر إلى الإعلان عن سعادته بنشوب حرب بين أطراف يعتبرها ضمن خصومه الى حد ما ولسبب أو آخر، وهؤلاء أيضا أخالفهم الرأي، ولأسباب أخرى.. هؤلاء جميعا ينظرون للأمر من جهة واحدة، حيث الجغرافيا والتاريخ، فيقيسون الأمور بدءاً من هنا الى هناك، فكيف يبدو الأمر لو نظرنا من الجهة المقابلة، نظرة عكسية، من هناك الى هنا لنرى مواقع أقدامنا فوق أرضنا ونحن واقفون على ساحة المعارك في جورجيا؟ اذا أردت أن أستبق بالنتائج قبل الفرضيات قد أقرر أن خسائرنا في تلك الحرب غير قليلة، وأن الأخطار التي يمكن أن تقع علينا من تداعياتها لن تكون كذلك باليسيرة.. فوق الأرض هناك في جورجيا قد نرى في تلك الحرب وتداعياتها، اشتباكات معقدة مع العديد من الملفات الساخنة ذات الأهمية المحورية لمنطقتنا العربية، ولقضايانا المصيرية، بل ولمستقبل الأوضاع في المنطقة: فمن ناحية أولى، ووفقاً للتعريف الجديد لمفهوم الشرق الأوسط الجديد، تمثل جورجيا، إحدى الدول التي ضمها الإقليم، وهو ما يعني أنها أصبحت أحد أطرافه، ومحوراً لتفاعلاته، وخاصة أنها تجاور ركيزتين رئيستين من ركائز القوى الإقليمية الفاعلة في المنطقة، وهما تركيا وإيران، والتفاعل معهما، أو بمعنى آخر يصبح تورط أي منهما في صراعات القوقاز، من شأنه أن يؤثر سلباً على دول المنطقة، ووفق هذا البعد غاب عن الكثيرين، أن دخول جورجيا، بأزماتها، وتورط العديد من القوى الشرق أوسطية فيها، مع غياب الأطراف العربية عنها، يعني مزيدا من التراجع العربي في العديد من الملفات التي تهم المنطقة كالصراع العربي الإسرائيلي، والعراق والملف النووي الإيراني. ومن ناحية ثانية فإن الصراع في جورجيا، يرتبط في أحد أبعاده بالصراع على نفط القوقاز الذي تحاول الولاياتالمتحدة السيطرة عليه، خاصة وأن منطقة القوقاز تمثل الممر الرئيسي الأكبر لإمدادات النفط والغاز القادمة من حقول آسيا الوسطى وبحر قزوين وجنوب روسيا، إلى أوربا وحوض البحر المتوسط ومنها إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبالتالي فإن السيطرة على منطقة القوقاز تعني السيطرة على الجزء الأكبر من إمدادات النفط والغاز العالمي، مما يزيد من قدرات واشنطن على التحكم في سوق النفط، تصديراً واستيراداً وأسعاراً، خفضاً وارتفاعاً، وهو ما سيضر بكل تأكيد باقتصاديات ليس فقط الدول العربية النفطية، ولكن بكل الدول العربية، التي ترتبط اقتصادياتها بالنفط. ومن ناحية ثالثة، كشفت الأزمة الجورجية عن توغل الدور الإسرائيلي في وسط آسيا وشرق أوربا، وتخطي طموحاته للمنطقة العربية، فقد أزاحت الأزمة الستار عن دور إسرائيل في إشعال المواجهات بين جورجيا وروسيا وذلك من خلال إمداد الجيش الجورجي بالأسلحة والخبراء العسكريين، وتشجيع الرئيس الجورجي ساكاشفيلي على القيام بخطواته العسكرية الأخيرة مع روسيا مقابل تزويد جورجيا بالسلاح والعتاد العسكري، وهي ورقة تستخدمها إسرائيل للضغط على روسيا لوقف بيع أسلحة متطورة للدول العربية وإيران. يدعمها في ذلك شعور روسيا بالقلق من تسليح جورجيا، وتقدمها باحتجاج رسمي على قيام إسرائيل ببيع السلاح لجورجيا واعتباره "خطاً أحمر". وتطرقت روسيا في رسالة الاحتجاج إلى تحفظ إسرائيل من بيع منظومات سلاح حديثة لإيران وسورية. وهذا التوغل الإسرائيلي، لن تقتصر تأثيراته فقط على الأخطار المباشرة على أمن واستقرار منطقة القوقاز، والضغط على روسيا فيما يتعلق بإيران وسورية، ولكن ستكون له العديد من الأخطار غير المباشرة، التي تتعلق بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة، فيما بين الدول العربية وإسرائيل من جانب، وتوسيع دائرة الأطراف الساعية لتوسيع مناطق نفوذها في الدائرة العربية من جانب آخر. ومن ناحية رابعة فإن أحداث جورجيا، كان لها كذلك تداعياتها على الوضع المعقد في العراق، وذلك كون جورجيا إحدى الدول التي كانت تنشر قواتها في العراق، كورقة استخدمها الرئيس الجورجي للتقرب من الولاياتالمتحدة، والظهور بمظهر الحليف والصديق المقرب على أمل الوقوف بجانبه في الملفات الشائكة لبلاده ضد روسيا، وهو ما لم يحدث، فقررت جورجيا سحب قواتها من العراق، وهو ما من شأنه التأثير السلبي، ولو بدرجة محدودة، على التحالف الدولي الداعم للسياسة الأمريكية في العراق. ومن ناحية خامسة، فإن الأزمة الجورجية، تثير في أحد أبعادها قضية الملف النووي الإيراني، حيث يرى البعض أن الموقف المناوئ لروسيا، الذي تبنته الولاياتالمتحدةالأمريكية، في قضية تعتبرها روسيا، أحد محاور أمنها القومي، يمكن أن ينعكس على الموقف الروسي من الملف الإيراني باتجاه مزيد من التشدد في وجه المطالب الأمريكية، وإقدام روسيا على تقديم صور أكثر من الدعم لإيران في مواجهة الضغوط الأمريكية التي تتعرض لها، وهو ما سيؤثر بطبيعة الحال على مستقبل تسوية هذا الملف. هذا بعض ما تكشفه نظرة الواقف على أرض القضية حين يتطلع الى مصالحنا هنا، أما اذا ضاق الأفق عن التطلع من هناك، فلم تر العيون الا ما تحت الأقدام، فالأمر عندي لا يختلف عن دفن الرؤوس في الرمال ومواجهة الأخطار بتضليل الذات، ولهذا أرانا على خلاف في الرأي مع كل هؤلاء..